ما بين التجاهل وفرص الاستغلال.. ديمقراطيو أمريكا والسياسات الخارجية
تراجع اهتمام الديمقراطيين بقضايا السياسة الخارجية لأمريكا، ليس بالأمر الجديد، لكنه كان سمة كافة الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة.
رغم تزايد عدد المرشحين الديمقراطيين المتنافسين، الذي يفوق عددهم ٢٠ مرشحًا، للفوز ببطاقة الحزب لمنافسة الرئيس "دونالد ترامب"، الساعي للفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر لها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام القادم، فإن قلة منهم تهتم بمعالجة قضايا السياسة الخارجية.
وأظهرت مناظرتان انتخابيتان بينهم الأولى أجريت يومي ٢٦ و٢٧ يونيو/حزيران، والثانية يومي ٣٠ و٣١ يوليو/ تموز تركيزا على القضايا المحلية.
بيد أن تعامل تلك القلة – حتى الآن - مع قضايا السياسة الخارجية الأمريكية لا يرقى لمستوى التحديدات التي تواجهها الولايات المتحدة على الصعيد الدولي بعد ما يزيد على عامين ونصف العام من أداء الرئيس "ترامب" اليمين الدستورية في ٢٠ يناير/كانون الثاني ٢٠١٧، في وقت يتصاعد فيه التحدي الصيني والروسي.
وفي المقابل، فإن الرئيس "ترامب" يستخدم قضايا السياسة الخارجية لتعزيز فرص فوزه بفترة رئاسية ثانية، فيتحدث موقع حملته الانتخابية عن تحقيقه إنجازات على صعيد القضايا الخارجية.
ويتمثل أبرزها في: هزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي، والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، باعتباره أسوأ اتفاقية في التاريخ الأمريكي، وتوقف التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية، وإصلاح العلاقات الأمريكية مع إسرائيل بعد فترة من التدهور خلال الإدارة السابقة، وإصلاح بعض المشكلات التجارية مع الصين، وزيادة الإنفاق العسكري الأمريكي، وإحرازه تقدمًا في عملية السلام مع حركة طالبان في أفغانستان.
ثلاث أسباب
إن تراجع اهتمام المتنافسين الديمقراطيين بقضايا السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ليس بالأمر الجديد، لكنه كان سمة كافة الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة، حيث لا تأتي الشئون الدولية على أجندة متنافسي الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) سواء في الانتخابات التمهيدية للفوز ببطاقة الحزب، أو الانتخابات النهائية التي تجري بين مرشحيّهما في نوفمبر/تشرين الثاني كل أربع سنوات.
ويعزو ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية، يتمثل أولها في أن عددًا كبيرًا من المتنافسين الديمقراطيين كانوا حكام ولايات سابقين، أو أعضاء سابقين وحاليين بمجلسي الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ)، وليس لديهم خبرة في الشئون الدولية باستثناء قلة منهم.
وفي مقدمتهم السيناتور بيرني ساندرز، والسيناتور إليزابيث وارين، اللذان كتبا مقالات عن رؤيتهما للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبعض أزماتها التي تواجهها على الصعيد الدولي، ونائب الرئيس الأمريكي السابق "جو بادين" ذو الخبرة السابقة في الشئون الدولية، فضلًا عن مشاركته في عملية صنع القرار الأمريكي الخارجي لثماني سنوات، شهدت أزمات دولية كان لها كبير الأثر على مصالح الولايات المتحدة في الخارج، وأمنها القومي.
ويتعلق ثانيها باهتمام الناخب الأمريكي بقضايا الداخل، مثل: الهجرة، والإصلاح الضريبي، والرعاية الصحية، أكثر من اهتمامهم بقضايا السياسة الخارجية، إلا تلك التي سيكون لها انعكاسات على أوضاعهم الداخلية، كدخول الولايات المتحدة في حروب أو نزاعات دولية، وقضايا مكافحة الإرهاب لحماية الأمن القومي الأمريكي، حيث أوضح استطلاع للرأي أجراه مركز جالوب، وقد نشرت نتائجه في ٢ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٨، أن قضايا الرعاية الصحية والاقتصاد والهجرة تحتل قائمة القضايا التي على أساسها يصوت الناخبون، ولهذا، فإن قلة من رؤساء الولايات المتحدة فازوا في الانتخابات الرئاسية من خلال بناء حملات انتخابية تركز على القضايا والأزمات الدولية.
وقد أرجع استطلاع للرأي أجراه "مركز التقدم الأمريكي" على الناخبين انخفاض اهتمامهم بقضايا السياسة الخارجية لوجود فجوات في فهمهم للأهداف الأساسية لسياسة دولتهم الخارجية، بجانب الارتباك حول ما تريد واشنطن تحقيقه في الخارج.
ويضيف المركز استنادًا على نتائج الاستطلاع أن الناخبين لم يروا مبدأً شاملاً أو منطقًا أو مجموعة واضحة من الأهداف للسياسة الخارجية الأمريكية.
ينصرف ثالثها إلى جغرافيا الولايات المتحدة، حيث إن جيرانها في الشمال والجنوب دولتان مسالمتان (كندا والمكسيك)، ويحدها من الشرق والغرب محيطان (المحيط الأطلسي والهادي)، الأمر الذي جعل كافة التهديدات الأمنية العالمية بعيدة عن أراضي الدولة.
وعلى الرغم من العولمة، وتشابك دول العالم بأزماتها، لا يزال الناخب الأمريكي على قناعة بأن أراضيه في مأمن من تلك التهديدات.
فرصة للاستغلال
على الرغم من قلة اهتمام مرشحي الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية القادمة بقضايا السياسة الخارجية الأمريكية إلا أن الاهتمام بها قد يعزز من قوتهم في السباق الانتخابي، حيث إن النظام الدولي الراهن يواجه أزمات محفوفة بالمخاطر تهدد أمن ومصالح الولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة منذ تأسيسه في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.
خاصة مع تصاعد حدة المنافسة الاستراتيجية بين القوة الأمريكية من جانب والقوتين الصينية والروسية اللتين تشكلان تحالفًا للتصدي للهيمنة الأمريكية العالمية من ناحية أخرى، ولا سيما بعد استثمارهما المتزايد في قوتهما العسكرية، والانتشار العسكري خارج حدودهما، وتزايد تأثيرهما السياسي على الساحة الدولية.
وترى بعض التحليلات الأمريكية أن قضايا السياسة الخارجية قد تكون أحد المآخذ على سياسة الرئيس "ترامب" رغم حديثه المتواصل على حسابه بموقع "تويتر"، وموقع حملته الانتخابية عن تحقيقه إنجازات عدة في كثير من الأزمات الدولية، بصورة تحقيق المصلحة الأمريكية.
لكن بعض المؤشرات تشير إلى أن سياسته الخارجية ولدت ثمة تحديات جوهرية للولايات المتحدة.
فعلي سبيل المثال، رتبت الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي ضد الصين تداعيات كارثية على الاقتصاد الدولي، وعلى أوضاع المزارعين الأمريكيين، فضلًا عن أنها أذكت حالة "عدم اليقين" بين المستثمرين في الداخل والخارج.
على عكس قضايا الداخل الأمريكي التي يحتاج تحقيق الرئيس إنجازا فيها الدخول في صراع محتدم مع الكونجرس بمجلسيه، حتى لو كان حزبه يسيطر على مجلسيه، فإن الدستور الأمريكي يمنحه أولوية وحرية فعل كبيرة في قضايا السياسة الخارجية.
ما يعني أن أمام مرشح الحزب الديمقراطي فرصة لتقديم رؤية خلال فترة الانتخابات لكيفية إصلاح أخطاء السياسة الخارجية خلال رئاسة "ترامب"، والعمل على تنفيذها في حال نجاحه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وتلك الرؤية تلقى قبولًا بين أوساط الديمقراطيين الذين أضحوا مع سياسات الرئيس الأمريكي الحالي الخارجية انطلاقًا من شعاره "أمريكا أولًا" أكثر تأييدا مما سبق للعمل مع حلفاء الولايات المتحدة في إطار التعددية الدولية، وسياسات تتعارض مع تلك التي تبناها "ترامب"، مثل: تأييد اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، وحرية التجارة الدولية.
تظهر نتائج استطلاع للرأي لمركز "بيو" نشرت نتائجه في ٢٩ نوفمبر/تتشرين الثاني ٢٠١٨ أن ٧٠٪ من الديمقراطيين ومؤيدي الحزب يعتبرون أن تحسين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة هدف رئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية.
ويرى أغلبيتهم أن علاقات دولتهم مع دول العالم في أسوأ حالاتها، وأنها تفقد حلفاءها حول العالم.
وتشير كثير من استطلاعات الرأي إلى أنه منذ تولي "ترامب" سدة الحكم والناخبون الديمقراطيون الذين يتجنبون استخدام القوة أصبح دعمهم لإرسال القوات الأمريكية لحماية الحلفاء في الخارج في تزايد.
وتوضح تلك الاستطلاعات أن ما بين ٤٠٪ إلى ٥٧٪ من الناخبين غير راضين عن طريقة تعامل الرئيس "دونالد ترامب" مع الشئون الدولية، وهو الأمر الذي يظهر أن قضايا السياسة الخارجية تعد فرصة أمام الديمقراطيين يتوجب عليهم استغلالها، بحيث تكون محور حملاتهم الانتخابية.
في الختام، يبتعد المتنافسون الديمقراطيون للفوز ببطاقة الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة عن الحديث عن قضايا السياسة الخارجية، التي تواجه إشكاليات متعددة منذ تولي الرئيس "ترامب" سدة الحكم.
في وقت يتحدث فيه "ترامب" عن تحقيق إدارته إنجازات متعددة بكثير منها، على الرغم من أن الاهتمام بها قد يميز المرشح الديمقراطي عن الجمهوري الساعي للفوز بولاية ثانية، وذلك بطرحه رؤى مغايرة لسياسة "أمريكا أولًا"، وإذا ما تم ربطها بقضايا الداخل الأمريكي، التي على أساسها يصوت الناخب الأمريكي، وإصلاحها انطلاقًا من قناعة أن القوة الأمريكية وفاعليتها تبدأ من الداخل.
* عمرو عبد العاطي: باحث متخصص في الشئون الأمريكية