لقد وضعت تسريبات هيلاري كلينتون الجديدة مزيدًا من النقاط على الحروف، ووضحت بشكل أكثر تفصيلاً أبعاد استراتيجية إدارة أوباما.
مثل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع السرية عن البريد الإلكتروني الخاص بوزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس أوباما السيدة هيلاري كلينتون تطبيقاً للمثل "إن الشيء غير المتوقع قد يحدث غالباً، وأبعد الظنون قد يكون أقربها إلى التحقق".
فالقرار رغم كونه يأتي في إطار التنافس الانتخابي الحاد على كرسي الرئاسة الأمريكية إلا أنه حرك الأرض تحت أقدام الأنظمة السياسية التي تعودت العمل في الظلام؛ بحثاً عن مصالح آنية، وضيقة دون أن تعطي قيمة للتطورات التي تشهدها رقعتها الجغرافية.
فقد كشفت رسائل السيدة هيلاري الإلكترونية عن أن ثمة شططا سياسيا، وتدهورا أخلاقيا للنخب السياسية في بعض دول المنطقة، مقابل اندهاش اجتماعي متصاعد من عدم وعي وسذاجة نخب أمريكية؛ أدخلت المنطقة في سلسلة لا نهاية لها من الفوضى والتشتت. فقد أماطت هذه الرسائل الإلكترونية اللثام عن مشاهد مخزية لدول عدة؛ منها دولة يفترض للأسف أنها عربية وخليجية تدعى قطر، أشعلت الحرائق بين أبناء الشعب الواحد، وذرعت بذور الفتنة بين شعوب من المفترض أنها شقيقة، وهللت وضخمت احتجاجات شهدتها دول المنطقة، وحولتها بتعليمات أجنبية إلى نقطة ارتكاز لتكريس الفوضى، وإنهاء أدوار الدول الوطنية التي طالما مثلت حائط صد أمام سياساتها التخريبية.
على النقيض تماما فإن من يطلع على رسائل السيدة كلينتون سوف يفاجئه الدور الحكيم والشجاع الذي لعبته دول مثل السعودية والإمارات في الحفاظ على الدول الوطنية في المنطقة، كما سارت الدولتان في السنوات الماضية في طريق مستقيم، عُرفت ملامحه بوضوح في التصدي لمخططات طالما كانت تستهدف نشر الفوضى من جهة، ومن جهة أخرى تعزز من حضور التيارات العنيفة والمتطرفة، حيث كانت الدولتان رأس الحربة في رفض مشاريع تقسيم المنطقة العربية على مذابح الطائفية والمذهبية والعرقية والمصالح الضيقة والآنية، وقامتا بجهد استثنائي في زمن كل ما فيه استثنائي للحفاظ على تماسك أوصال الأمة العربية ومنعها من الانقسام والتشرذم.
تضمنت رسائل البريد الخاص الذي كانت تستخدمه السيدة كلينتون أسرار وتفاصيل كشفت مخططات إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لنشر الفوضى في الشرق الأوسط، ودعم ما عرف زورا وبهتانا باسم "ثورات الربيع العربي" من خلال توظيف قطر والتيارات المؤدلجة باعتبارهما رافعة أساسية لتنفيذ أجندة إدارة أوباما في المنطقة.
وأظهرت الرسائل المسربة المواقف الرصينة، والراسخة للسعودية والإمارات تجاه دعم البحرين، فقد لعبتا دوراً لا تخطئه عين في أزمة البحرين عام 2011، وعبر عن ذلك الموقف القوي لسمو الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، وتأكيده على أن بلاده والسعودية ستقومان بإرسال القوات إلى البحرين، باعتبار ذلك "موقفا للتاريخ".
في بريد آخر ذكرت هيلاري كلينتون قصة إغلاق الأمير سعود الفيصل الهاتف في وجهها بعد أن اتصلت به غاضبة بشدة من دخول قوات "درع الجزيرة" إلى البحرين عام 2011، على أثر حدوث أعمال شغب من جماعات متطرفة، وتضمن "الإيميل" تأكيدها أن السعوديين لم يعودوا يثقون في الولايات المتحدة الأمريكية لحماية مصالحهم؛ خصوصًا بعد غزو القوات الأمريكية للعراق عام 2003 الذي كانوا يرفضونه بشدة.
الصورة السعودية الرائعة كشفتها رسالة من سفير أمريكي سابق في السعودية موجهة إلى السيدة هيلاري حول طبيعة المملكة وشعبها، قال فيها: "إن السعودية هي المجتمع الوحيد على هذا الكوكب الذي لم يخترقه الاستعمار الغربي، ولم تحتله أي جيوش أوروبية، وعندما وصل الغرب أخيراً إلى السعودية لم يجدوا أنفسهم كمحتلين بل عمالة مستأجرة بمقابل". وأضاف في الرسالة: "على عكس بعض الدول الأخرى في الخليج، استثمرت المملكة ثروتها النفطية في الداخل، وليس في الخارج، ورغم ذلك كانت المملكة سخية بالمساعدات الخارجية وفي وقت من الأوقات كانت تتبرع بما يعادل 6% من الناتج القومي لمساعدة الدول الأخرى خاصة المسلمة".
خلافا للمواقف السعودية والإماراتية الراسخة، كشفت التسريبات عن الدور القطري المشبوه في إشعال الحرائق في الإقليم، وإثارة الفوضى في المنطقة. فقد استهدفت هذه الدول بشهادات الرسائل المسربة أنها تحرص بالأساس على إحاطة خصر الأوطان العربية بحزام ناسف من الجماعات الجهادية، والمصالح المؤدلجة لتهدد بتمزيق كل شيء في لحظة واحدة وتقود المنطقة إلى الهلاك. ففي إحدى الرسائل السوداء طلبت هيلاري من قطر في العام 2011 تمويل ما سمي "ثورات الربيع العربي" عبر صندوق مخصص لمؤسسة كلينتون. ووفقا للتسريبات، أودعت قطر في خزينة مؤسسة كلينتون مبالغ طائلة كجزء من صفقة لصالح تمويل مخطط الربيع العربي، وتأجيج الاحتجاجات، ودعم أعمال العنف والإرهاب. كما سلطت إحدى الوثائق الضوء على وجود صلة بين هيلاري كلينتون، وقناة الجزيرة القطرية التي تمثل الذراع الإعلامية للدوحة في تنفيذ توجهاتها الخارجية التي تستهدف الإمساك بمفاصل منطقة الشرق الأوسط وأعصابها الحساسة. وكشفت الوثائق أن كلينتون أجرت زيارة إلى الشبكة القطرية في الأول من فبراير 2010، وغادرتها خلال أقل من 48 ساعة، وتضمن برنامج الزيارة اجتماعا خاصا في فندق "فور سيزونز" مع وضاح خنفر مسؤول الشبكة، والمدير العام لقناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية، توني بورمان، ثم لقاء مع أعضاء مجلس تحرير الجزيرة.
شملت المباحثات آنذاك التنسيق، والاتفاق على زيارة وفد من الجزيرة إلى واشنطن في منتصف مايو 2010، واختتمت هذه الاجتماعات بلقاء مع رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم آل ثاني، الذي يعد صاحب السلطة المطلقة في قناة "الجزيرة". كما طلبت كلينتون من القناة بث تقرير باللغة العربية يعرض لمدة 15 دقيقة تسلط فيه الضوء على التزام الإدارة الأمريكية تجاه المسلمين في العالم.
الدور التخريبي لقطر في دعم الكيانات الجهادية كشفته مناخات التحالف بين الدوحة وجماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية عشية الاحتجاجات التي شهدتها القاهرة في 25 يناير 2011، ووصلت العلاقة الذروة مع وصول الجماعة إلى صدارة السلطة في يونيو 2012. هنا، يمكن فهم إحدى الرسائل الإلكترونية المسربة، والمؤرخ في سبتمبر 2012 عن تعاون قطري مع تنظيم "الإخوان" الإرهابي، لإنشاء قناة إعلامية باستثمارات تبلغ 100 مليون دولار. كما كشفت الوثيقة عن أن الجماعة اشترطت على قطر أن يتولى القيادي الإخواني، خيرت الشاطر، إدارة القناة، وأن يكون مشرفا مباشرا على المؤسسة التي تملكها، على أن تكون البداية قناة إخبارية مع صحيفة مستقلة تدعم الإخوان. إلا أن الإيميل لم يتحدث عن مصير المشروع وتفاصيله النهائية، وما آل إليه لاحقا. ووفقاً للبريد الإلكتروني جاء هذا المشروع بعد أن اشتكت الجماعة الإرهابية من ضعف مؤسساتها الإعلامية مقارنة بالمؤسسات الإعلامية الأخرى.
لقد وضعت تسريبات هيلاري كلينتون الجديدة مزيدًا من النقاط على الحروف، ووضحت بشكل أكثر تفصيلاً أبعاد استراتيجية إدارة أوباما التي كان التمويل القطري نقطة استناد استراتيجية فيها، لقيادة المنطقة نحو فوضى خلاقة، وتجلى ذلك في كشف إحدى الوثائق المسربة من البريد الإلكتروني لـ”كلينتون” محادثة بينها وبين رئيس الوزراء القطري آنذاك حمد بن جاسم آل ثاني، حول ما سمي صندوق الاستثمار المصري الأمريكي، وطلب مشاركة قطر في الصندوق، باعتبار ذلك مدخلاً لتعزيز تدخلاتها في الشأن الداخلي المصري.
ووفقاً للوثيقة، فإن واشنطن أنشأت صندوق الاستثمار المصري الأمريكي ومثله في تونس تحت اسم توفير فرص العمل والمساهمة في توسيع قطاع الأعمال التجارية الصغيرة من خلال زيادة الوصول إلى رأس المال وتعزيز القطاع الخاص، ولكن كان هذا ضمن لعبة كبرى وصفقة بين الإدارة الأمريكية وقتها وقطر للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط من باب مصر. وذكرت الوثيقة أنه تمَّ إطلاق صندوق الاستثمار المصري الأمريكي في البداية بمبلغ 60 مليون دولار، وأعلنت قطر عن حزمة مساعدات بقيمة ملياري دولار لمصر. لكن الوثيقة كشفت رغبة قطر في توظيف الصندوق لتمكين التيارات الإسلامية، وبخاصة جماعة "الإخوان" في مصر.
وأظهرت رسائل كلينتون الدور الذي لعبته واشنطن في دعم الاحتجاجات ضد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، في ظل تبني واشنطن لخطاب المعارضة لتحقيق أهداف التغيير، كما كان لافتا في المراسلات المكشوف عنها أنها أظهرت طبيعة العلاقة بين الإدارة الأمريكية والناشطة اليمنية توكل كرمان التي لعبت دوراً معتبراً في تأجيج الاحتجات اليمينة، والتي وصفت في لقاء مع صحفي أمريكي، هيلاري كلينتون بأنها قدوتها.
في سياق متصل، وخلافاً للجهود الإماراتية التي كانت حاسمة في الحفاظ على وحدة واستقرار ليبيا، لعبت الدوحة دوراً خبيثاً لزعزعة استقرار ليبيا، ووفقاً للبريد الإلكتروني المؤرخ في أكتوبر 2011، أكد مسؤولون ليبيون، من بينهم رئيس الوزراء الليبي السابق محمود جبريل، أن الدوحة سعت إلى لعب دور أكبر من اللازم في شؤون بلاده عبر تقديم الأموال والمساعدة اللوجستية للمتشددين الإسلاميين في ليبيا. كما دعمت الدوحة تدخل حلف الناتو للإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي في أكتوبر 2011 بعد أكثر من أربعة عقود في السلطة. وبحسب الإيميل المرسل إلى كلينتون ساهمت عسكرياً من خلال مشاركة وحدات قطرية خاصة في المعارك الفعلية، خاصة معركة مجمع باب العزيزية في أغسطس 2011.
ومن قراءة معمقة لرسائل السيدة كلينتون يمكن أن نخرج بخلاصات واضحة أولها: أن دول الاعتدال العربي - السعودية والإمارات والبحرين ومصر- كانت مدركة بعمق لأهداف الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة في عام 2011، حين حرصت على تبني سياسة كاشفة لمزاعم الدول التي سعت إلى تأجيج الاحتجاجات لدى شعوب المنطقة، واستثمار حالة الفوضى التي كرستها إدارة أوباما وحلفائها في المنطقة، وبخاصة قطر لتمكين تيارات الإسلام السياسي على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها للوصول إلى قمة السلطة في الدول التي شهدت الاحتجاجات.
وثانيها: أن الدول المقاطعة لقطر والمكافحة للإرهاب كانت بعيدة النظر وصائبة في قرار المقاطعة، فقد كشفت مراسلات كلينتون صحة اتهامات دول المقاطعة بشأن تورط الدوحة في الإضرار بمصالح المنطقة ودولها إضافة إلى دعمها للكيانات الإرهابية. وقد التفتت دول المقاطعة مبكراً للسلوك القطري في دعم وتمويل واحتضان التنظيمات الإرهابية والمتطرفة والطائفية.
وثالثها: أن مراسلات كلينتون كشفت عن الطابع الأخلاقي للسياسة السعودية الإماراتية حيال قضايا المنطقة، خلافاً للسياسة القطرية التي تبحث عن مداخل للدور والنفوذ على حساب مصالح شعوب المنطقة.
ورابعها: أن مراسلات كلينتون وضعت الكرة أمام المجتمع الأممي، والقوى الدولية، وبخاصة واشنطن بشأن إعادة صياغة استراتيجية التعامل مع القوى الداعمة للفوضى والإرهاب، وتلك الداعمة للسلام والاستقرار في المنطقة. ولعل توجه الإمارات في أغسطس الماضي ومن خلفها البحرين نحو إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل، تؤكد مصداقية السياسة الخارجية لهذه الدول نحو إقرار سلام شامل وعادل للمنطقة.
في هذا السياق، فإن المعلومات التي سربتها ايميلات هيلاري كلينتون قد تفرض على الإدارة الأمريكية المقبلة إعادة ترتيب أولويات علاقاتها الاستراتيجية في المنطقة العربية، من خلال منح نفوذ أكبر لتحالف الاعتدال العربي الذي تقوده الرياض وأبوظبي في المنطقة. كما أن زيادة الوزن السياسي لدول الاعتدال في شبكة العلاقات الدولية، من شأنه تقزيم نفوذ القوى المحلية المثيرة للفوضى من جهة، ومن جهة وأد التيارات المؤدلجة وأبناء العنف في المنطقة. مقابل ما سبق، يبقى مهماً على المجتمع الدولي.
يبقى القول في النهاية إن ما تم الكشف عنه من فضائح سياسية وأخلاقية طالت دولا ودويلات ورؤساء وأمراء ووزراء تورطوا في مخططات تخريبية كبرى كانت ضحاياها شعوبا بأكملها يظل نذرا يسيرا في بحر كبير من الأسرار والمؤامرات التي ستكشف عن نفسها تباعا أو ستجد من يكشفها مهما طال الزمن.. فما خفي بالتأكيد سيكون أعظم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة