التحليلات
رسائل علنية وسرية حملتها زيارة رئيس الأركان الإيراني لأنقرة
تساؤلات عدة حملتها زيارة رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد حسين باقري إلى العاصمة التركية
بعد 38 عاما من القطيعة العسكرية بين تركيا وإيران بدأت مع وصول حكم الخميني الى السلطة عام 1979 وتدهور العلاقات بسبب تباعد المواقف والسياسات والاصطفافات الإقليمية، قام رئیس هیئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإیرانیة اللواء محمد حسين باقري على رأس وفد عسكري وأمني رفيع بزيارة إلى العاصمة التركية حملت معها العديد من التساؤلات حول جدول الأعمال والمباحثات وأهداف الزيارة ونتائجها.في العلن وعلى ضوء البيانات الرسمية الصادرة في البلدين حول الزيارة كانت الأولوية لموضوع بناء الجدار الأمني على الحدود مع إيران، الذي بدأت تركيا تنشئه بطول 144 كلم بهدف منع الانتقال غير الشرعي عبر الحدود، والحيلولة دون تسلل عناصر حزب العمال الكردستاني إلى الأراضي التركية، وكذلك لملفات أمنية على رأسها التعاون العسكري وتبادل الخبرات، هذا إلى جانب بحث أهم التطورات الأمنية في سوريا والعراق.
لكنه ورغم التكتم التركي حتى الآن حول نتائج الزيارة فإن باقري هو الذي لخص ما جرى طيلة الأيام الثلاثة التي أمضاها في العاصمة التركية بقوله إن المباحثات تركزت على القضايا الإقليمية المهمة بما فيها قرار إقليم كردستان العراق بإجراء استفتاء الاستقلال خلال شهر سبتمبر/أيلول المقبل والذي "فيما لو جرى سيشكل أساسا لبدء التوتر والصراع في داخل العراق وتطال تداعیاته دول الجوار".
وإعلانه أيضا أن الجانبين اتفقا على إجراء التدريبات المشتركة وتبادل الزمالات الدراسیة العسكرية، وزیارات القطع البحریة للبلد الآخر وإیفاد مراقبین من البلدین للمناورات المشتركة واتخاذ الإجراءات اللازمة لتبادل الخبرات والمعلومات في مكافحة الإرهاب بكل أنواعه والتنسيق العملیاتي - التدریبي والتأسيس للتعاون في العديد من القضایا المهمة، سیما على الأصعدة العسكریة والدفاعیة والأمنیة بین البلدین".
نفهم من كلام ورسائل باقري أن أنقرة لم تعد تريد توتير علاقاتها بإيران أكثر من ذلك وهي تريد مراجعة سياستها الإيرانية تماما بعيدا عن المواقف السابقة التي كانت القيادات السياسية التركية تتحدث فيها دائما عن تطابق وجهات النظر التركية مع العواصم الإسلامية والغربية في موضوع إيران "والتصدي لسياساتها التصعيدية في المنطقة".
الزيارة كما يراد لها في الجانبين ستكون بمثابة مقدمة لتحول واضح في سياسة تركيا الإيرانية عسكريا وأمنيا وغلق صفحة الاتهامات والاتهامات المقابلة التي كان يكررها كبار المسؤولين وعلى رأسهم الجنرال حسين فيروز أبادي رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية السابق حين كان يتهم تركيا بالسماح للمسلحين والإرهابيين الذين يزعزعون استقرار سورية والعراق التسلل عبر أراضيها و"تسهيل تحقيق الأهداف العدوانية للولايات المتحدة وإسرائيل".
الزيارة تعكس أيضا رغبة تركيا في مراجعة أسلوب تعاملها الأمني والعسكري مع إيران بعدما كانت تلغي قبل أعوام زيارة لرئيس الأركان الإيراني السابق الجنرال محمد سليمي قبل ساعات من بدئها بهدف عدم إغضاب واشنطن وتل أبيب وتجنب أي مواقف استفزازية غربية ضدها.
الواضح هنا وعند التمعّن في كلام باقري حول نتائج الزيارة هو أن تركيا قررت مراجعة سياستها الإيرانية ليس استجابة لنصائح وجهها وزير الخارجية الإيراني السابق علي أكبر صالحي "إنه لا يمكن إلا لتركيا وإيران إذا عملتا معا حل الصراعات الإقليمية وخصوصا أزمتي سوريا والعراق" بل نتيجة الانسداد الواسع في سياسة تركيا السورية والعراقية.
والواضح أكثر على ضوء الإعلان عن زيارة قريبة مرتقبة للرئيس التركي إلى طهران أن أنقرة ومن خلال التقارب العسكري والأمني الذي كان عقبة أساسية في طريق التعاون، ترغب في فتح الطريق أمام إعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها في محاولة للوصول إلى رقم 30 مليار دولار من التبادل التجاري مرة أخرى.
خنادق التمركز التركي والإيراني كانت متقابلة ودائمة السخونة والتوتر. هي كانت كذلك في سوريا وفي العراق وفي لبنان وفي الخليج لكن التطورات الإقليمية الأخيرة في شمالي سوريا والعراق تحديدا قد تدفعهما نحو إجراء مراجعة حقيقية باتجاه رفع المتاريس وحالات الاستنفار. لكن السؤال الأهم الذي ينتظر الإجابة هو معرفة حقيقة فرص هذا التقارب والثمن الواجب دفعه في الجانبين وكيف سيؤثر على مسارات المشهدين الأمني والسياسي في سوريا والعراق؟
حقيقة أولى هي وجود عوائق وعقبات كثيرة أمام التفاهم التركي الإيراني حول مسألة مواجهة الإرهاب في سوريا والعراق لأن لكل طرف تصنيفاته وتوصيفاته وحساباته الخاصة به. والمواجهات هناك لن تنتهي بمثل هذه البساطة لأن عمليات الحشد والتعبئة والتجييش المتباعد مستمرة في البلدين بعضها يظهر للعلن وبعضها مستتر.
حقيقة أخرى تقول إن العلاقات التركية- الإيرانية ناجحة في حماية الشق التجاري الاقتصادي، لكن في الشق السياسي والأمني الثنائي والإقليمي فالتباعد واضح جدا والتحالفات لن تتغير بمثل هذه البساطة. طهران ما زالت حليفا لنظام الأسد وهي أبرز من يعترض على التواجد العسكري التركي في سوريا والعراق، وأنقرة من ناحيتها تحملها دائما مسؤولية إفشال وعرقلة سياساتها في البلدين حيث المواجهة التركية الإيرانية والاصطفافات المحلية ما زالت قائمة.
العقبة الأكبر التي تعترض طريق التقارب التركي الإيراني ستكون في العلن الولايات المتحدة الأمريكية لكن من وراء الستار هناك موسكو أساسا. مؤشرات التقارب الأمريكي الروسي في جنوب سوريا على حساب مشروع تفاهمات الأستانة وترجيح الكرملين حسم المسائل مع الإدارة الأمريكية على حساب أنقرة وطهران من الممكن أن يتحول إلى سبب في التقارب والتنسيق بين أنقرة وطهران لكنه يحتاج أولا إلى تجاوز الحاجز الأمريكي الروسي.
بقدر ما يقلق التقارب الروسي الإيراني أنقرة فإن طهران أيضا تتحسب لأي تقارب تركي أمريكي يضر بمصالحها الإقليمية لذلك رأينا أنقرة تندفع بحماس نحو روسيا ورأينا طهران تتجاهل التقارب الأمريكي الروسي حتى لا يكون تفاهما أمريكيا تركيا على حسابها.
بين الحقائق التي لا يمكن تجاهلها في تركيا أيضا هي أن أي تحول استراتيجي إقليمي تركي نحو موسكو قد يعترض عليه الغرب، لكن أي تحول تركي استراتيجي نحو طهران وسط هذه الظروف التي تمر بها المنطقة، لن يقلق شركاء أنقرة الغربيين فقط، بل الدول العربية والإسلامية التي نسّقت معها تحت سقف منظمة العالم الإسلامي في اتخاذ مواقف صارمة حيال طهران في الأعوام الأخيرة. فهل تركيا جاهزة للتفريط بمنظومة علاقاتها وتفاهماتها هذه؟
التقارب التركي الإيراني لن يكون سهلا رغم كل ما يقال حول استدارة تركية نحو طهران فلعبة التوازنات الإقليمية والدولية والتفاهمات الأمريكية الروسية لن تسمح بذلك على عكس ما كان الرئيس الأمريكي السابق أوباما يريده ويقول الرئيس الأمريكي الجديد عكسه تماما حيث يعلن أنه في طريق اتخاذ المواقف الحازمة من السياسات الإيرانية الإقليمية. فهل أنقرة جاهزة لمفاجآت أمريكية محتملة ضد إيران وسياساتها الإقليمية؟
مرة أخرى يبرز إلى العلن أن مشكلة أنقرة هي في تراجعها عن مواقف وتهم كثيرة وجهتها لإيران وتريد نسيانها بين ليلة وضحاها. القيادات السياسية التركية كانت تقول إن السياسات الإيرانية الإقليمية تشكل خطرا على أمنها، وتقارير الاستخبارات التركية كانت تقول إن إيران زادت من دعمها المكشوف للقوات الكردية التابعة لصالح مسلم في شمال سوريا، وتنسّق معها لفتح ممرّ يقرّبها من مدينة الباب وهي تموّل وتحرك القوات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني في سنجار باتجاه الضغط على التقارب بين أربيل وأنقرة فكيف ستتراجع أنقرة بمثل هذه السهولة عن كل هذه المواقف؟
مشكلة أنقرة أيضا أنها قدمت في حسابات الربح والخسارة مصالحها التجارية وحاجتها إلى الغاز الإيراني على السياسات الأمنية والعسكرية التركية والإيرانية في سوريا والعراق، ومشكلتها كذلك هي محاولة لعب ورقة التوتر الإيراني العربي لصالحها، هذه المعادلة التي بدأت تتراجع وتفقد مفعولها كما رأينا في الأزمة الخليجية مؤخرا حيث كانت القيادة السياسية التركية تردد أن أمن الخليج بات جزءا من أمنها الإقليمي فرأينا وزير الخارجية الإيراني في العاصمة التركية بعد ساعات على اندلاع الأزمة مع قطر.