متحف "سرسق" الجديد.. كل ما تخيلناه جديرًا ببيروت
هو المكان عينه، لكنه ليس متحف "سرسق" الذي كنا نسمع عن "أمجاده" في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات
هو المكان عينه، لكنه ليس متحف "سرسق" الذي كنا نسمع عن "أمجاده" في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، والذي استكشفناه مرات عدة في معارضه الخريفية في التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة. هو القصر الأبيض الصغير ذاته، برشاقته وتخريماته التي تجعله هكذا خفيفًا في عيون الناظرين إليه، لكنه لم يعد فقط تلك القاعات الحميمة والعتيقة، المفعمة برائحة مئة سنة من عمره.
في هذا المكان المحاط بوقار تاريخ البرجوازية التجارية البيروتية التي شيّدت قصورها على تلة الأشرفية، مشرفة على المرفأ، ومتعالية على وسط بيروت.. في هذا المكان، الذي بات اليوم أرض المقاولات الجديدة لبناء الأبراج السكنية المتطاولة، المبنية على أنقاض الفيلات والقصور والمباني القديمة ذات الطابع التراثي.. في هذا المكان، ما زال قصر نقولا إبراهيم سرسق قائمًا كمعجزة عمرانية صغيرة، ولو باتت تلاصقه واحدة من تلك البنايات الهائلة الحجم والارتفاع، ليبدو القصر هكذا وقد حوصر فضاؤه كتهديد مستقبلي.
عاد "متحف سرسق"، بعد سبع سنوات غاب فيها القصر وأقفلت أبوابه من 2008 إلى 2015، وخضع في أثنائها لأعمال ترميم وتوسعة كبيرة، أضافت إليه أربعة طوابق تحت الأرض، لتتضاعف مساحته الكلية إلى حدود ثمانية آلاف وخمسمئة متر مربع (كانت مساحته الأصلية لا تتجاوز 1500 متر مربع). وإذا كان بانيه هو نقولا سرسق، ومالكه هو بلدية بيروت بهبةٍ من صاحبه (منذ عام 1952)، فإن "منقذه" هو الراحل غسان تويني، الذي أطلق مبادرة تحديثه وتوسيعه وترميم أقسامه الأصلية.
كان الخوف، الذي صاحب المشروع، أن يفقد القصر "المتحف" طابعه المعماري الحميم، وأن يخسر تلك المسحة التاريخية، وأن تنمحي ذاكرته المتصلة بالمكان، وبواحدة من أكثر حقبات بيروت تألقًا وازدهارًا. لكن الإنجاز الذي حققه معماريو المشروع، بإشراف وتخطيط وإنجاز المهندسيَن جان ميشال فلموت وجاك أبو خالد، كان بالضبط هو في صون القصر وباحته وصالاته الداخلية وفق صورته الأصلية، مع تلك الإضافة الباهرة لمساحاته، واستغلال تلك الزوايا في باحته لإضافة "بوتيك" ومقهى (مطعم) ومع تلك اللمسة الهندسية الذكية (والأخلاقية) التي تتيح التجول في جميع صالاته وطوابقه بالكرسيّ المتحرك.
لم يُحفظ المتحف على ما كان عليه وحسب، فهذ ليس فضيلة في ذاته، ولربما كان في صيغته القديمة قارب على البَهتان والخفوت، ولَتخلَّف عن متطلبات زمننا الحاضر. بهذا المعنى فإن فلسفة تطويره لم تقتصر على فكرة التوسعة، ولا على صيانة طابعه التراثي، بل تعدتهما إلى وظائف وأدوار جديدة وإضافة بنايات ومحتويات لم تكن في المتحف سابقًا. تلك الإضافة النوعية تتماشى مع تغير مفهوم المتحف الحديث، وأدواره الثقافية، ووظائفه المستجدة، والمتصلة بالبيئة المحلية وبالسكان وبالحياة اليومية للمدينة. لذا، "متحف سرسق" الجديد، الذي افتتح أبوابه مجددًا يوم الثامن من تشرين الأول الماضي، هو بلا شك أهم حدث "حضري" منذ سنوات مديدة.
أن يكون هذا الصرح موجودًا، أن ندخله في صبيحة يوم خريفي مشمس، أن نرى في باحته مجموعة من الأهل والأطفال منخرطين في "ورشة" رسم ولعب فني ولهو إبداعي، أن تغمرنا تلك الأناقة البسيطة لمدخله الجديد، أن نحمل "برشور" برنامجه، ومنشور دليل المتحف ومعارضه المتنوعة.. كنا هكذا نشعر أننا حقًّا من سكان مدينة، وأننا نمارس ما يمارسه أبناء المدن في بداية عطلة الأسبوع. كنا نشعر أن "سلطات" المدينة تمنحنا أخيرًا فضاء عموميًّا للتواصل والتذوق وإشباع تلك الحاجة الروحية إلى التهذيب والترقي العمومي.
في الطابق الأرضي، هناك صالتان متناظرتان، وتم اختيار النشاط الأول فيهما ليكون معرضًا جماعيًّا بعنوان "مدن المدينة"، يشارك فيه فرتان أفكيان، وروي ديب، ومجموعة "98 أسبوع"، ومنى فواز، وأحمد غربية، ورندا ميرزا، ومجموعة "أشغال عامة" (نادين بكداش وعبير سقسوق ساسو).
اختيار هذا المعرض بالذات، هو بمثابة إعلان عن التوجه الجديد للمتحف، أي استقطاب الممارسات الفنية الحديثة وأنماطها وأدواتها المتعددة، الأكثر تورطًا في السجالات المدينية. فالمعرض "مفهوميٌّ" بامتياز، يقوم على فكرة محورية هي استكشاف بيروت المعاصرة، كلٌّ بأدواته ووسائله الفنية (تصوير، فيديو، طباعة، رسم، كتابة، وسائط متعددة...) وبمزاجيته الفردية ومقاربته الخاصة، وحسب التعريف بالعرض: تغدو المدينة نتاج الرغبة والخيال في آن واحد، إذ إنها الفضاء الذي يُعاش والذي يتجسد.
وباستحضاره نص الروائي إيتالو كالفينو "مدن لا مرئية" عن الطبيعة المراوغة والتراكمية للمدينة، يستدعي المعرض المدن الكثيرة والمتداخلة التي تشكّل بيروت، وهي المدن التي "نفاوضها" (نعبرها ونخترقها) كل يوم. ومن أفلام الأكشن إلى الأبحاث المدينية، ومن الواقعي إلى المتخيَّل، نقف عبر أعمال المعرض أمام تحولات بيروت المنظورة والخفية.
في الطابقين العلويين، تم تثبيت أعمال مختارة من "المجموعة الدائمة" لمقتنيات المتحف من اللوحات التشكيلية اللبنانية، وهي بالطبع بانوراما مصغرة عن تاريخ الفن التشكيلي اللبناني، الممتد من أواخر القرن التاسع عشر إلى مطلع الألفية الثالثة. وتعطينا بالأخص لمحة وافية عن سيرة "معرض الخريف" السنوي الذي وقف متحف سرسق عليه منذ عام 1961.
وفي هذا المعرض الدائم، سنكتشف عيانًا تلك "البداية" الكلاسيكية الصارمة والمتمكنة للرواد، ولجرأتهم على توطين فن الرسم ومنحه طابعًا محليًّا لبنانيًّا من غير تردد تقريبًا، وبأقل قدر من الادعاء، خصوصًا في لوحات البورتريه التي احتلت جناحًا خاصًّا. لكن أيضًا سنكتشف مغامرات الستينيات والسبعينيات و"بومينغ" الحداثة والتجريب و"الصرعات" واللحاق باقتراحات عالمية في عشرات اللوحات لجيلين على الأقل من فنانين لبنانيين.
الإنجاز الذي يوازي إعادة الافتتاح قيمةً وأثرًا هو المعرض الضخم "نظرات على بيروت" (9 تشرين الأول – 11 كانون الثاني) في صالة المعارض الكبرى (الطابق الثاني تحت الأرض). إنه بمثابة متحف داخل متحف. حدث قد ننتظر عقودًا كي يظهر مثيل له. المعرض الذي نسّقته سيلفيا عجميان، احترافي بأمانته التوثيقية، بالغ القوة في سعته وتنوعه، شامل إلى حد إعجازي، ويطرأ على البال أنه نظير تاريخ كامل، وربما يتوجب على الدولة امتلاكه بوصفه "وثيقة كبرى" لهوية العاصمة وذاكرتها.
aXA6IDMuMTQ3LjQ2LjE3NCA= جزيرة ام اند امز