كتاب "زبيدة والوحش" لسعيد وعمرو الكفراوي.. تجربة بصرية فريدة
في هذا الكتاب الفريد بكل عناصره، محتوى وإخراجا؛ تقدم تجربة القدير سعيد الكفراوي أحد آباء القصة القصيرة وابنه الفنان عمرو الكفراوي.
مغامرة بصرية مغايرة، ولوحات فنية تتحاور مع نص مبدع تخرج إلينا بالإصدار الجديد للدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. كتاب يستعيد بعضا من زخم فني وتقاليد كانت تربط بين النصوص السردية (القصصية والروائية)، وبين تجسيداتها البصرية من خلال اللوحات المرسومة التي كانت تصاحب نشر هذه الأعمال، إما مسلسلة على صفحات الجرائد والمجلات، أو بين دفتي كتاب.
هنا في هذا الكتاب الفخم المثير بكل عناصره، محتوى وإخراجا وغلافا وقطعا، تتجلى جمالية الكتابة وهي تعانق فرادة الرسم، ويثير الدهشة والإعجاب معا أن أصحاب هذه التجربة هما: الكاتب القدير سعيد الكفراوي أحد آباء القصة القصيرة في العقود الخمسة الأخيرة، وابنه الفنان اللامع عمرو الكفراوي واحد من أشهر الرسامين ومصممي الأغلفة ومخرجي الكتاب في عالم النشر.
كتاب «زبيدة والوحش ـ مختارات قصصية» يقع في 552 صفحة من القطع المتوسط، ويضم المجموعات الست الأولى التي كتبها سعيد الكفراوي عبر مشواره الأدبي منذ الستينيات من القرن الماضي وحتى الآن، وقام بإخراجه وتصميم غلافه ورسم اللوحات المصاحبة للقصص الفنان عمرو الكفراوي، في تجربة بصرية فريدة من نوعها، يقول عنها "قمتُ برسم مجموعة من الرسومات مستلهما عالم القصص، وأيضا مستوحاة من أعمال رسامي جيل الستينيات، الذين عاصروا أبي، أمثال حامد ندا وسعيد العدوي، وغيرهم".
الكتاب الجديد الذي يراوح ما بين سحر الكلمة وسحر الصورة؛ يأتي كتجربة خاصة وجديدة تماما في عالم النشر والكتابة، سرديا وبصريا، يجمع بين الأب المبدع الراسخ، أحد آباء جيل الستينيات، والابن الفنان المثقف المتمرد على الأطر التقليدية، ويقدم للقارئ العربي كتابا جديدا في إخراجه وطرائق عرضه ولوحاته المرسومة خصيصا له، والمستلهمة بصريا من روح نصوصه، ويضم بين دفتيه نصوصا قصصية شكلت -مع مثيلاتها ونظائرها لكتاب القصة من جيل سعيد الكفراوي- تراث جيل الستينيات في القصة القصيرة، وهو تراث زاخر ووافر، ومثل بلا شك ثورة حقيقية في مسارات الكتابة القصصية في أدبنا الحديث.
سعيد الكفراوي يعد واحدًا من أبرز أبناء جيل الستينيات في مصر، صدر له أكثر من عشر مجموعات قصصية، صنعت له مكانة متميزة في الأفق الإبداعي العربي، وترجمت أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية والسويدية والدانماركية، ومن أشهر المجموعات القصصية التي نشرها عبر مشواره الأدبي: «مدينة الموت الجميل» 1985، و«ستر العورة» 1989، و«سدرة المنتهى» 1990، و«بيت للعابرين»، و«مجرى العيون» 1994، و«دوائر من حنين» 1997.. وهي المجموعات الست التي ضمها الكتاب الجديد، وتمثل أبرز وأهم ملامح مشروع سعيد الكفراوي في كتابة القصة القصيرة، التي تفرغ وأخلص لها، ولم يكتب غيرها حتى الآن.
علاقة الكفراوي بكتابة القصة علاقة فريدة وخاصة في تاريخ الكتابة السردية المعاصرة، فهو واحد من قلائل الذين لم يكتبوا لونا أدبيا غيرها، ولم يقرنوا بينها وبين أي نوع أدبي آخر، يقول الكفراوي "أنا قاص قضيتُ عمري كله ناسكًا في تلك المساحة التي نطلق عليها محراب القصة القصيرة، وعبر هذا الشكل من السرد كتبت 13 مجموعة قصصية تحمل أسئلة، ومعنى، وتنشغل بجدليات أمضيت عمري كله أبحث عنها، وبالتالي أكتبها على مهل".
من هنا تأتي أهمية وفرادة إنتاجه القصصي، وخاصة في مجموعاته الست الأولى التي يضمها الكتاب الجديد «زبيدة والوحش»، وهي التي رسخت اسمه ضمن شيوخ القصة المعاصرة وآبائها الكبار، وحازت اهتمام النقاد من أجيال مختلفة، في مصر وخارجها، بدءا بجيل شيوخ النقاد مثل شكري عياد وعلي الراعي، مرورا باعتدال عثمان، جابر عصفور، صلاح فضل، محمد برادة، وصبحي حديدي، ووصولا إلى نقاد الأجيال الأحدث سيد الوكيل، حسين حمودة، وخيري دومة، وغيرهم.
تقول الناقدة القديرة اعتدال عثمان عن سعيد الكفراوي وقصصه: "صاحب النسيج القصصي الفريد في تنوعه وهمومه ولغته.. يحضرني دائماً فكرة أنه صانع الواقعية السحرية المصرية في أدبنا الحديث، بمذاقها المصري الأصيل الحريف.. المعاش في الريف والمدينة".
وفي هذا الكتاب الجديد الذي تقدمه الدار المصرية اللبنانية لعشاق القصة القصيرة والفن البصري على السواء، مختارات من أعماله التي كتبها على مدار ما يقرب من أربعة عقود، ومن ثم فهي تجسد مشروعه في السرد القصصى الذي تخصص فيه، الكفراوي من الكتاب الذين يرون أن القصة الجيدة تمنح قراءها متعة مساوية للرواية، وأنها فن صعب لا يقبل التزيد أو الترهلات أو اللغة غير الفنية، فهي فن الكتابة المصقولة، والحقيقة أن كثيرا من قصص سعيد الكفراوي تظل عالقة بالذاكرة نتيجة لاحتشادها بشبكة معقدة من العلاقات السردية قوية الدلالة، ومرتهنة في نفس الوقت بالمكان والزمان والشخصيات الحية، فشخصيات سعيد الكفراوي ليست مجرد نماذج بشرية، بل هي منتزعة من واقع تجاربه الشخصية ومشاهداته الثرية.
بهذا المعنى، وبحسب الناقد سيد الوكيل؛ وجد الكفراوي مشروعه السردي الذي تحددت ملامحه منذ مجموعته القصصية «مدينة الموت الجميل»، وظل يعمل على صقله وتطويره بإصرار، حتى انتهى إلى مجموعة من الخواص المميزة، التي تجعل القارئ يفطن بقليل من الجهد إلى أن سعيد الكفراوي واحد من الكتاب القلائل الذين امتلكوا مشروعاً سرديا خاصاً، غير أن أهم ما يميز هذا المشروع أنه لم ينطلق من الأساس الأيديولوجي ولا من نفس القيم الواقعية التى قامت عليها مشاريع الكتابة فى الستينيات، فمشروع الكفراوي هو مشروع جمالي بالدرجة الأولى.
قصص المجموعات الست بتنويعاتها المختلفة وانتقالاتها الفنية تؤكد حرص صاحبها على خوض تجاربه الإبداعية في جسارة لافتة، كما أبرزت قدرته على التوغل في عوالم لم تعتدها الكتابة القصصية، خصوصاً عوالم المكبوت والغرائبي، منطلقاً من ميراث القرية المصرية، ومن وعي يختلط فيه الحلم بالكابوس، لكنه وعي لا يتوقف عن "التجريب" الذي يستبدل مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع، كاشفاً عن المناطق المعتمة لدوائر الحنين التي يتهددها الموت بأشكال عدة.
تبدو قصص سعيد الكفراوي وكأنها خيط مشدود دائما إلى عالمين: أحدهما قديم يكاد يندثر، والآخر ينهض من تحت ركامه، لكنه مثقل بالخوف والقلق، وقد شكلت "القرية" أهم تجليات أعماله، ومثلت بؤرة الارتكاز في مشروعه القصصي، فعالم "القرية" في أعمال الكفراوي لا يمثل بالنسبة له حلما أسطوريًا، بل هي في المبدأ مكان للميلاد، عاش فيه وارتبط به وما زال يسكنه، كشف أسراره وطقوسه، وامتلك القدرة الجمالية على التعبير عن هذه الأسرار والطقوس.
يتبدى دائما وعبر أعماله المنشورة في الكتاب افتتانه المدهش بتلك المنطقة الغامضة من روح المصريين، منطقة معجونة بالسحر والخرافة، وإدراك زمن يولي، تعيش قهر السادة، وتنام وعيونها مغلقة على حلم بالخلاص.
يمثل هذا الكتاب بجمعه بين نصوص قصصية تحمل طابع واقعية سحرية مصرية صميمة، وبين إخراج فني ولوحات تمثل تيارا شديد التميز في حراك المشهد الفني المعاصر, "تحفة سردية/ بصرية" فريدة، توافر لها، سرديا، نصوص عفية وطازجة، تحمل سمات عصرها الجمالية بكل ابتكاراتها وتجديداتها الشكلية ومغامراتها الإبداعية، لأحد أكبر كتاب القصة في عالمنا العربي، وتوافر لها بصريا معادلها المرسوم بريشة فنان معاصر، يحمل جينات أصالة الموروث والروح المتوثبة المتمردة المغردة خارج السرب، إنه ثمرة الأب الكاتب، جزء منه ويختلف عنه، بل يتمرد عليه أيضا في وحدة فريدة ورائعة في مشهدنا الإبداعي المعاصر.
aXA6IDMuMTM2LjE5LjIwMyA= جزيرة ام اند امز