"المجتمع المفتوح وأعداؤه" تحفة الفيلسوف كارل بوبر
هو "كتاب من الدرجة الأولى في أهميته، ينبغي نشره على نطاق واسع، لأنه يقدم انتقاداً عميقاً لكل خصوم الديموقراطية قديماً وحديثاً"
هو "كتاب من الدرجة الأولى في أهميته، ينبغي نشره على نطاق واسع، لأنه يقدم انتقاداً عميقاً لكل خصوم الديموقراطية قديماً وحديثاً". هكذا يصف برتراند راسل "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، الذي صدر عن "دار التنوير" (بيروت 2016) بجزئيه، وقام بترجمته إلى العربية السيد نفادي (الجزء الأول) وحسام نايل (الجزء الثاني).
هذا الفيلسوف النمساوي المولد، البريطاني الجنسية، يُعتبر الأبرز في فلسفة العلم، ومرجعاً لا غنى عنه في النظرية المعرفية. كان تعرّفي على نتاجه في منتصف التسعينيات، مع صدور كتاب بالعربية بعنوان "كارل بوبر، مدخل إلى العقلانية النقدية". حينها، في خضم تجربة الحروب وصراع الأيديولوجيات، بدا الكتاب مخرجاً لائقاً لحيرتنا الثقافية، مع انتباهنا برفقته إلى نسبية الحقيقة، السياسية أو الفكرية أو العلمية.
ثم تلقفت كتابه "بؤس الأيديولوجيا – نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي"، الذي كان صادراً بالعربية عن "دار الساقي" بلندن عام 1992. أي بعد وقت قليل من معايتنا لانهيار الشيوعية، و"تفسخ" الأيديولوجيات الحاكمة في بلادنا وصعود الأصوليات الدينية. كان بحثاً مبهراً في عقم التاريخانية وفلسفاتها وبالأخص منها الماركسية.
العودة إلى بوبر، عربياً، تبدو مبررة جداً الآن. فمسائل مثل العولمة والتشابك مع الحضارة وتطوير النظم السياسية والرهان على الديموقراطية، والخلاص من الاستبداد، ونقد التوتاليتارية، وبناء المجتمع.. هي مسائل مصيرية اليوم وليست مجرد سجالات في المنهج والفكر. وهي مسائل تلحّ على حياتنا وعلى وجهة مستقبل شعوبنا ومجتمعاتنا، وتطرح تحديات هائلة لمراجعة الماضي، وامتلاك الإدراك النقدي وممارسته، ومعرفة مدى استعدادنا في الإسهام الحضاري.
يثير كتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه" الصعوبات التي تواجه "حضارتنا" (الحضارة الغربية المنشأ والكوكبية المجال)، تلك الحضارة التي يمكن وصفها أنها نزوع إلى تحقيق ما هو إنساني ومعقول، وتحقيق المساواة والحرية. إذ يحاول بوبر أن يبيّن أن هذه الحضارة لم تفق بعد من صدمة ميلادها، أي صدمة التحول من "المجتمع القبلي" أو "المغلق"، الواقع دوماً تحت سيطرة القوى السحرية، إلى حال "المجتمع المفتوح"، الذي يطلق قوى الإنسان النقدية. ويحاول أيضاً أن يبيّن أن صدمة هذا التحول إنما هي أحد العوامل التي جعلت من الممكن أن تنشأ تلك الحركات الرجعية، التي حاولت طوال قرنين، ولا تزال، هدم الحضارة والعودة إلى النظام القبلي القديم.
ويرى بوبر أن ما ندعوه راهناً "المجتمع الشمولي" إنما ينتمي إلى ما هو سائد، سواء أكان قديماً أم حديثاً، كما هو الحال في حضارتنا نفسها.
ووفق قاعدة اللورد آكتون الشهيرة "السلطة مفسَدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، يقيم كارل بوبر مراجعة أخاذة للجذور العميقة للثقافة الغربية، بدءاً من أفلاطون وحتى هيغل وصولاً إلى فاشيات القرن العشرين، مروراً بالماركسية وغيرها من الفلسفات السياسية الشمولية والمغلقة. فبوبر يشترط فهم الشمولية، وأهمية الكفاح لمواجهتها، لتحصين حضارة "المجتمع المفتوح" وقيمه.
فضلاً عن نقده اللاذع والعنيف لأفلاطون، وإصراره الدائم والصارم على تفنيد ماركس بنقد عقلاني قاس، مقرون بتفهم وتعاطف مع "الرونق المدهش"، على المستويين الأخلاقي والذهني، للنظرية الماركسية... فإن بوبر يحاول أن يفحص تطبيق طرق العلم النقدية والعقلانية على مشكلات المجتمع المفتوح. فهو يحلل مبادئ إعادة البناء الاجتماعي الديموقراطي، مبادئ ما اصطلح على تسميتها "الهندسة الاجتماعية المتدرجة" في مقابل "الهندسة الاجتماعية اليوتوبية".
وهو يفعل ذلك بنقد تلك الفلسفات الاجتماعية، المسؤولة عن التحيز الواسع الانتشار ضد إمكانيات الإصلاح الديموقراطي. وأكثر هذه الفلسفات قوة هي تلك التي أُطلق عليها اسم التاريخانية. بمعنى آخر، يقف بوبر على قناعة أن الفلسفات السياسية الشمولية، المفرطة بالتاريخانية (ماركسياً: الحتمية التاريخية)، بما أنها قائمة على "نبوءات" شاملة، إنما تقع كلياً خارج نطاق المنهج العلمي، ويقول ببساطة: "المستقبل يعتمد علينا، ولسنا معتمدين على أي ضرورة تاريخية".
ببلاغة ساخرة، يقول إن آراءه لا تحاول أن تكون مجرد إضافة إلى كل هذه المجلدات التي تموج بالحكمة، وإلى ميتافيزيق التاريخ والمصير، المنتشرة في أيامنا، إنما تحاول بالأحرى أن تبيّن أن هذه الحكمة التي تعتمد على النبوءة تضر أكثر مما تفيد. إن ميتافيزيق التاريخ، حسب بوبر، تعرقل تطبيق مناهج العلم المتدرجة على مشكلات الإصلاح الاجتماعي. وهي فضلاً عن ذلك، تحاول أن تبيّن أننا قد نصبح صانعي مصيرنا عندما نتوقف عن تقديم أنفسنا كأنبياء.
لكن ما "المجتمع المفتوح" الذي يتحدث عنه؟ يعتمد توضيح مقولته هذه على توصيفه لـ"المجتمع المغلق"، الذي يشبه الكائن العضوي البيولوجي، وينطبق عليه إلى حد كبير ما يسمى بالنظرية العضوية أو البيولوجية للدولة. فالمجتمع المغلق يشبه القطيع أو القبيلة في أنه وحدة شبه عضوية، يرتبط أعضاؤها ببعضهم البعض بروابط شبه بيولوجية، كالنسب والحياة المشتركة والمشاركة في المجهودات الجماعية والأخطار المشتركة والأفراح المشتركة.. إلخ. إنها لا تزال جماعة متعينة من أفراد متعينين، يرتبط كل واحد منهم بالآخر ليس عن طريق علاقات اجتماعية مجردة وحسب، كتقسيم العمل أو تبادل السلع، وإنما عن طريق علاقات فيزيقية متعينة كاللمس والشم والرؤية.
أما المجتمع المفتوح، فيكافح أعضاء كثيرون من أجل الصعود الاجتماعي واحتلال أمكنة أعضاء آخرين. وقد يؤدي، على سبيل المثال، إلى ظاهرة اجتماعية هامة كالصراع الطبقي. ولا يمكننا أن نعثر على أي شيء شبيه بالصراع الطبقي في مجتمع عضوي. إذ أن خلايا أو أنسجة الكائن الحي التي يقال أحياناً إنها تنطبق على أعضاء الدولة قد تتنافس على طعام، بيد أنه ليس ثمة ميل متأصل في الساق أن يسعى إلى أن يصبح الدماغ.
المجتمع المفتوح، إذاً، يتسم بالمنافسة على المكانة بين أعضائه. أما المجتمع المغلق فمؤسساته، تراتبيته، وطوائفه، لا تُمسّ، إنها محرمات.
ما يبينه كارل بوبر، أن الانتقال من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح، هو إحدى أكثر الثورات عمقاً التي مر بها الجنس البشري.. وبرأيه، أن الإغريق بدأوا من أجلنا تلك الثورة الكبرى، "التي لا تزال، على ما يبدو، في بدايتها"!
على أي حال، ليس مبالغة القول أن قراءة كتاب كارل بوبر، عربياً، لا بد أن يحدث في وقت قريب، أصداء خفية أو جلية في سجال الأفكار المندلع بعنف وصخب، فلا ننسى أن هذا الكتاب تحديداً "يظل أقوى دفاع عن الديموقراطية الليبرالية"، حسب قول "الإيكونوميست".