بمثل هذا التصور يمكن للدول أن تتقدم لأن النفط زائل والإنسان باق، والأمم هي هبة شعوبها قبل أن تكون هبة ثرواتها الطبيعية
ارتبط مفهوم الأزمة شعبيا وأكاديميا وإعلاميا وسياسيا بوجود وضع صعب وسلبي ذي آثار غير مرغوبة، ومع تسليمنا بصحة هذا التصور من الناحية العملية والذهنية، إلا أنه توجد مناحٍ وزوايا أخرى للأزمة قلما يتم الالتفات لها، فمن بين مختلف الأطر المفاهيمية للأزمة شد انتباهي مفهوم ذو دلالة بالغة قدمه الصينيون، حيث يعبر عن الأزمة في اللغة الصينية بمصطلح (Ji-Wet) وهو مؤلف من كلمتين (Ji) وتحمل معنى "الخطر" و(Wet) التي تحمل معنى "الفرصة"، وتكمن عبقرية هذا التصور الصيني هنا في تركيزه على الجانب الإيجابي الذي يمكن أن تحمله الأزمة وكيف يمكن استثمارها، والتأكيد على الاستفادة من الأزمة وتحويل ما تحمله من مخاطر إلى فرص من خلال السعي لإيجاد حلول ومخارج مبتكرة من الأزمة وإطلاق روح الإبداع، وجعلها فرصة لإعادة صياغة الظروف ونسجها بما يتناسب مع ضرورة تجاوز الوضع الأزموي والتعلم من الأخطاء السابقة، وخلق واقع أكثر صلابة وقدرة على مواجهة هزات مستقبلية مهما كانت طبيعتها وحدتها.
حقيقة أذهلني هذا التصور الصيني للأزمة الذي تمت صياغته منذ زمن طويل، وهو ما يجعلنا ندرك جزءا من أسباب التميز الحضاري والثقافي للصين ماضيا وحاضرا، والمتمثل في القدرة على تحويل الليمونة الحامضة إلى شراب حلو كما يقول العالم الشهير "ديل كارنيجي"، والقدرة على تلمس الجوانب الإيجابية والفرص في أحلك الظروف التي تعجز فيها شعوب وأمم أخرى عن ذلك، وما أحوجنا اليوم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعرفها الدول العربية الريعية المعتمدة على النفط بالأساس في مداخيلها إلى تطبيق هذا التصور الصيني والبحث عن الفرص بين أكوام المخاطر التي تحملها هذه الأزمة منذ أن انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية بشكل دراماتيكي، وأثرت سلبا على اقتصاديات تلك الدول التي انخفضت مداخيلها وسجلت عجزا ماليا في ميزانياتها واتجهت بعضها نحو سياسات تقشف.
فالأزمة الحالية أكدت مرة أخرى عدم صواب الخيار النفطي كعماد للحياة الاقتصادية، لأن هذا الخيار جعل عددا من الاقتصاديات الريعية العربية رهينة لتقلبات أسواق النفط العالمية كما هو عليه الأمر حاليا، مقابل عدم تنويع مصادر الدخل عبر تطوير قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات والتأسيس لمواكبة تطورات اقتصاد المعرفة، مما جعل السياسات المتبعة تحول النفط إلى نقمة بدلا من نعمة، لذلك أصبح لزاما الآن إعادة النظر كليا في السياسات السابقة، والتحضير لمرحلة ما بعد النفط وأخذ العبر من الوضع الحالي.
وهنالك نماذج لدول استطاعت أن تتخلص من تبعيتها للنفط وتؤسس لاقتصاد متنوع وقوي وأكثر تماسك قائم على الإنتاج والإبداع، وقد مثلت إندونيسيا حالة جديرة بالدراسة في هذا المجال، فبعد أن كانت دولة عضو في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، اضطرت للخروج من المنظمة سنة 2008 بحجة انخفاض إنتاجها ومخزونها بشكل كبير مما جعلها دولة مستوردة للنفط، ولكن وصولها إلى هذا الوضع الطاقوي المتأزم والذي تزامن مع تأثرها بتداعيات الأزمة الاقتصادية الآسيوية منذ سنة 2007، لم يمنعها من أن تحقق إقلاعا اقتصاديا مكنها من أن تدخل عالم التصنيع من أوسع أبوابه وفي قطاعات استراتيجية مثل السفن والقطارات والصلب والطائرات المدنية والعسكرية والصناعات الدفاعية والصواريخ والأقمار الصناعية، مع تحقيقها لقفزة ملحوظة في صناعة السيارات التي أصبحت ثالث أهم صادرات البلاد بتجاوز رقم مليون سيارة مصنعة في البلاد، فلم تصبح إندونيسيا مركزا للتجميع والتركيب فقط بل لإنتاج سيارات بشكل كامل تقريبا، وبلوغ إيرادات تصدير السيارات 4.5 مليار دولار مع توقعات بارتفاعها إلى 10 مليارات دولار في غضون السنوات الثلاث المقبلة.
كما يوجد في الوطن العربي نماذج لدول نفطية تحضر بجدية لمرحلة ما بعد النفط على رأسها كل من قطر والإمارات العربية المتحدة، حيث تعد الدولتان رائدتين في استغلال مداخيل النفط والغاز لخدمة الأجيال القادمة والتأسيس لاقتصاديات قوية لا تخضع لتقلبات الأسواق العالمية، فاستطاعت الدولتان أن تحتلا مكانا ضمن الدول ذات مؤشرات التنمية البشرية المرتفعة جدا حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2015 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، باحتلال قطر للمرتبة الثانية والثلاثين والإمارات للرتبة الحادية والأربعين، واستثمارهما في مشروعات متعلقة بالطاقة النظيفة وتطوير قطاع الخدمات والسياحة والنقل والتوجه للاستثمار خارجيا، والأهم من ذلك تطوير التعليم بمستوياته المختلفة لتكوين الإنسان باعتباره أساس ومصدر كل عملية تطور وتقدم، وعلى عكس الدول التي استسلمت لإغراءات الثروة النفطية الآيلة للزوال وإن كانت تدر عليها مليارات الدولارات، وقامت الإمارات العربية المتحدة بوضع السياسة العليا لدولة الإمارات في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار في نوفمبر 2015، والتي تتضمن 100 مبادرة، وإجمالي استثمار يصل إلى 300 مليار درهم والهدف الاستعداد لعالم ما بعد النفط، ومضاعفة الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج القومي لثلاثة أضعاف بحلول 2021، وفي الوقت الذي تتخوف فيه الدول النفطية من نضوب النفط نجد رئيس مجلس الوزراء الإماراتي يبدي العكس ويصرح: "الإمارات ستحتفل بآخر برميل من النفط تصدره لأنها ستكون مستعدة لهذا اليوم بثروة جديدة، تتمثل في طاقاتها البشرية المسلحة بالعلم والتكنولوجيا الحديثة، مضيفا أن هدف الدولة هو تغيير معادلات الاقتصاد الوطني ودفعه بعيدا عن الاعتماد على الموارد النفطية".
بمثل هذا التصور يمكن للدول أن تتقدم لأن النفط زائل والإنسان باق، والأمم هي هبة شعوبها قبل أن تكون هبة ثرواتها الطبيعية سواء كانت النفطية أو غيرها، والثروة الحقيقية هي تلك التي تمشي على الأرض وليست المكتنزة في أعماقها، لذلك طرح المفكر الجزائري "مالك بن نبي" معادلته الحضارية الشهيرة التي يتربع فيها الإنسان على القمة وتأتي بقية العناصر كعوامل تابعة له ومرتبطة بإبداعه وابتكاره وبقدرته على استغلالها للدخول في دائرة الحضارة والخروج من سجن الاعتماد على ثروات ناضبة وغير متجددة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة