الهدن في سوريا.. إنسانية في مسمياتها وعسكرية في أهدافها
اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في سوريا سيدخل حيز التنفيذ قريبا، يعود بالهدن والمصالحات إلى واجهة الأحداث في تلك البلد
اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في سوريا سيدخل حيز التنفيذ قريبا، يعود بالهدن والمصالحات إلى واجهة الأحداث في تلك البلد والتي توالى العديد من سابقاتها على مدن وبلدات سورية منذ بداية الأزمة السورية في منتصف مارس/ أذار 2011، أفضى بعضها إلى نتائج إيجابية وباء البعض الآخر بالفشل.
مشاريع الهدن بدأت من محافظة حماة، حيث لجأت القوات النظامية إلى أسلوب الهدن مبكرًا، ولعل هدنة بلدة قلعة المضيق في الريف الشمالي الغربي هي الأقدم قبل نحو 3 أعوام، وقدمت نموذجًا فريدًا اعتمد على مبدأ توازن القوى داخل البلدة المتاخمة لسهل الغاب.
هذا النموذج الفريد مستمر حتى اللحظة داخل البلدة، رغم عدة خروقات ومجازر نفذتها قوات النظام فيها منذ ذلك الحين، كان آخرها في أغسطس/ آب الماضي، حيث قتل 13 مدنيًا في غارات من الطيران الحربي السوري استهدفت أحياءها، لكنها ورغم ذلك حافظت على قدر من الأمان النسبي فيما لو تم قياسها بالقرى والبلدات المجاورة في سهل الغاب، والتي نزح معظم سكانها عنها.
وهدنة قلعة المضيق مهددة على الدوام بالانهيار بسبب معارك سهل الغاب المندلعة منذ نحو 6 أشهر، إضافة إلى المواجهات التي جرت في جارتها كفرنبودة.
نموذج مختلف للهدنة
نموذج كفرنبودة يختلف كليًا عن "القلعة" المجاورة، إذ بدأ العمل بها مطلع أغسطس/ آب 2014، وأعيد بناء بعض المنازل المدمرة وتنظيف الطرقات من الركام إثر معارك طويلة استمرت ما يقارب عامًا ونصف العام.
عودة الأهالي إليها كان مشروطًا بعدم جعلها مركزًا عسكريًا، ووقف جميع الأعمال العسكرية لمقاتليها، وبالتالي توقف قوات النظام عن استهدافها بشكل كامل، وهذا ما حصل بالفعل طيلة 14 شهرًا حافظت فيها المدينة على هدوئها واستقرارها مع تزايد أعداد المدنيين داخلها، إذ وصلوا إلى نحو 50 ألفًا من سكانها والنازحين إليها.
لكن عند مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي خُرقت الهدنة من قبل القوات النظامية، التي خيرت سكانها بين جعلها مركزًا لمرور الأرتال البرية نحو قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي، أو تدميرها تحت وطأة القصف المتنوع، فكان الخيار الثاني فنزح أهلها عنها مجددًا لتصبح ساحة معارك، وحاولت قوات النظام السيطرة عليها لكنها فشلت كليًا، ولا تزال تخضع لسيطرة الجيش الحر دون وجود الأهالي.
الهدن الدمشقية
مشاريع الهدن في مدينة دمشق بدأت من مدينة معضمية الشام المجاورة لمدينة داريا في الغوطة الغربية للعاصمة، عندما رفع علم النظام السوري فوق خزان المياه وسط المدينة بتاريخ 25 ديسمبر/ كانون الأول 2013 لمدة 72 ساعة كبادرة حسن نية بعد معارك وحصار دام أكثر من عام.
الاتفاق نص بحسب ناشطي المعارضة على سحب السلاح الثقيل وتسليمه للنظام مقابل وقف العمليات العسكرية وفتح ممر إنساني باتجاهها، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين من أبناء المدينة وبيان مصير المتوفى منهم، وهذا ما لم تحققه قوات الأسد رغم وعودها المتكررة، واكتفت بتسليم عدة جثث تعود لشبان قضوا تحت التعذيب.
وتعرضت هدنة المعضمية منذ ذلك الحين لعشرات الخروقات من قبل القوات النظامية التي عمدت إلى إغلاق المعبر الشرقي الواصل بينها وبين مدينة دمشق، لتدخلها في حصار اقتصادي ومعيشي ويصبح سكانها والنازحون إليها تحت رحمة هذا المعبر.
هدنة جنوب دمشق
ومن غرب دمشق إلى جنوبها، وتحديدًا بلدات بيت سحم ويلدا وببيلا، إذ وقعت فصائل هذه الأحياء على هدنة مفتوحة مع القوات النظامية في فبراير/ شباط 2014، وما زالت مستمرة حتى اللحظة.
ونصت بنود الهدنة على تسليم الجيش الحر للسلاح الثقيل واحتفاظه بالسلاح الخفيف، وتخيير عناصره بتسوية أوضاعهم أو بقائهم في مناطقهم، ووضع حواجز مشتركة على أطراف البلدات، ووقف إطلاق النار المتبادل بين الطرفين، ويلتزم النظام بفتح الطرق وإدخال المساعدات إلى هذه البلدات وانسحاب قواته من الأطراف.
وبعد ثلاثة أشهر، وتحديدًا في مايو/ أيار 2014، نجح نظام السوري أيضًا بتحييد حيي القدم والعسالي عن الصراع العسكري، وفق هدنة وقّعت مع قوات المعارضة فيها، وفق بنود مماثلة لما حدث في ببيلا ويلدا وبيت سحم، يضاف إليها وقف النظام السوري لعمليات الهدم التي بدأها مع انطلاق الانتفاضة الشعبية في الجنوب الدمشقي، كما أنه لم يشترط هذه المرة سحب السلاح الثقيل من مقاتليها.
الهدنة الأكثر استقرارا
وفي وقت مواز، دخلت الأحياء الشمالية لمدينة دمشق، ومنها أحياء برزة والقابون وتشرين الخاضعة جميعها لسيطرة المعارضة المسلحة، في هدنة مع النظام السوري ابتداءً من بلدة برزة في فبراير/شباط 2014 لتتبعها أحياء القابون وتشرين في شهر سبتمبر/ أيلول من العام ذاته.
ويعتبر ناشطون ومراقبون أن هدنة برزة هي الأكثر استقرارًا في محافظة دمشق، على الرغم من الخروقات الطفيفة التي ارتكبها النظام، أبرزها إغلاق المعبر الرئيسي للحي بشكل متكرر واعتقال شبانه عند الحواجز المنتشرة على أطرافه، وبعض حالات القنص التي أودت بحياة عدد من أهله.
وعاد آلاف المدنيين من سكان حيي القابون وتشرين إلى منازلهم بعد التوقيع على هدنة مماثلة لاتفاق برزة في سبتمبر/ أيلول 2014، لتصبح هذه الجبهة المحاذية للمتحلق الجنوبي والغوطة الشرقية في حالة هدوء شبه تام، يشوبه خروقات من قبل قوات النظام، كما حصل قبل أيام إثر استهداف القابون بعدة قذائف هاون أوقعت جرحى في صفوف سكانه.
هدنة برعاية دينية
ومن بلدة قدسيا في الريف الدمشقي أيضا، خرج 135 مقاتلًا من أبناء المدينة مع عائلاتهم نحو محافظة إدلب شمال سوريا برفقة الهلال الأحمر السوري ولجنة المصالحة في المدينة، بتاريخ 30 أكتوبر/ تشرين الثاني 2015، كشرط رئيسي وضعه النظام لإعادة فتح الطريق وفك الحصار الكامل المفروض عليها.
ونشرت صحيفة الوطن، المقربة من النظام السوري، نص الاتفاق وأبرز بنوده "عدم دخول الجيش أو الأجهزة الأمنية إلى داخل المدينة إلا بشكل إفرادي ودون حمل سلاح، سواء لتفقد منازلهم أو زيارة أهاليهم وأقاربهم"، في حين يتعهد أهالي قدسيا بـ "وقف عمليات الخطف"، وتوكيل مهمة حفظ الأمن داخل المدينة إلى لجان من أهالي قدسيا، وهم الوحيدون المخولون بحمل السلاح ونصب الحواجز داخل المدينة.
ويؤكد ناشطون سعي النظام السوري إلى تنفيذ ذات "التسويات" في بلدات وادي بردى (بسيمة، عين الفيجة، وادي مقرن، كفير الزيت..)، وصولًا إلى منطقة آمنة تمتد من الزبداني فمضايا وصولًا إلى العاصمة، وبالتالي ضمان الاستقرار الأمني والعسكري للنظام الحاكم بعد "ترويض" الشريان الواصل بين القلمون ودمشق.
حمص: تفريغ وليس هدنة
السابع من مايو/ أيار 2014، كان موعدًا لخروج مقاتلي المعارضة السورية من أحياء حمص القديمة متجهين شمالًا نحو الريف الخارج عن سيطرة النظام السوري.
ورزحت المجموعات المقاتلة من أحرار الشام وجبهة النصرة والجيش الحر، تحت حصار كامل لمدة عامين في عدد من أحياء مدينة حمص، إلى جانب مئات العوائل التي فضلت البقاء على مرارة النزوح، وسط دمار نال من معظم الأبنية والمرافق العامة، لتعود بعد ذلك إلى سيطرة القوات النظامية برعاية إيرانية وبإشراف أممي.
ونصت بنود الاتفاقية على خروج مقاتلي المدينة مع العوائل المتبقية، بالسلاح الفردي ومبلغ مالي دون 100 ألف ليرة سورية (مايعال 250 دولار أمريكي)، نحو بلدة الدار الكبيرة في الريف الشمالي، وإيقاف استهداف حي الوعر وفتح ممرات إنسانية إليه والبدء بمفاوضات تفضي إلى هدنة فيه بعد إتمام الاتفاق، وفي المقابل تطلق المعارضة سراح عشرات الأسرى لديها من قوات الأسد والميليشيات الداعمة إضافة إلى أسيرة إيرانية، كذلك فتح ممرات إنسانية إلى بلدتي نبل والزهراء المواليتين شمال حلب.
اتفاق الزبداني-إدلب
كما تعرقلت جهود الهدنة التي وقّعت في سبتمبر/ أيلول 2015، ونصت على وقف إطلاق نار وفتح ممرات إنسانية إلى بلدات مضايا وبقين والزبداني، مقابل شروط مماثلة تسري على مدينة إدلب وعدة قرى مجاورة من بينها بلدتي كفريا والفوعة.
ثلاثة أشهر استمرت خلالها المعارك على تخوم مدينة الزبداني، دون تمكن قوات النظام وحزب الله اللبناني من إتمام السيطرة الكاملة عليها، وسط صمود كبير لمقاتلي المدينة الذين ينتمون بمعظمهم إلى حركة أحرار الشام.
الاتفاق الأخير الذي رعته طهران وأنقرة، ووقّع في اسطنبول بمشاركة منتدبين عن غرفة عمليات جيش الفتح، بدا للوهلة الأولى أنه انفراج حقيقي لبلدات الجنوب والشمال المشمولين بالاتفاق، لكن عراقيل بدأت تظهر مع التدخل الروسي في سوريا، إذ لا تزال مضايا وبقين ترزحان تحت حصار كامل، وسط نداءات بضرورة التدخل قبل حدوث كارثة إنسانية في البلدتين، في وقت تستمر فيه قوات حزب الله بتجريف الأراضي الزراعية والأشجار المثمرة في سهل الزبداني.
هدنة قيد التنفيذ
ويعتبر إعلان الرئيس السوري بشار الأسد، وهيئة المعارضة السورية العليا مؤخرا، والمذعن بتنفيذ هدنة عسكرية، تطورا مهما على صعيد الجهود الدولية الرامية إلى وقف إطلاق النار، وخطوة أولى في مسار التسوية السياسية.
إلا أن طرفي الصراع السوري وضعوا شروطا لتنفيذ الهدنة، تتلخص بالنسبة للرئيس الأسد بوقف الدعم اللوجستي لمقاتلي المعارضة، وألا يتم استغلال الهدنة من الأطراف الأخرى مثل تركيا والسعودية، والتي وعد الرئيس الأسد في تصريح رسمي أنه سيتم التعامل مهم على أنهم "إرهابيين" في حال دخلوا البلاد.
أما من ناحية المعارضة السورية، فربطت تنفيذ تلك الهدنة بوقف العمليات العسكرية الروسية في سوريا، والتي يُنظر إليها في موسكو وفي دول غربية على أنها متساوقة مع القانون الدولي، كونها تجسيدا لاتفاق بين دولتين.
وتصر موسكو على تطبيق سياستها الثابتة، التي تقوم على تقديم المساعدة للقوات المسلحة السورية في عملياتها الهجومية، ضد المجموعات الإرهابية، وتستثني عملياتها العسكرية في سورية من إطار وقف إطلاق النار.
وبين إصرار الأخير والشروط والمطالب التي وضعها طرفي الصراع للبدء بالهدنة، والتي يصفها المجتمع الدولي بـ"المستحيلة"، هل سيسمح للهدنة العسكرية المزمع البدء بها خلال أيام قليلة، أن تبصر النور أم ستلاقي مصير سابقاتها بالفشل.
aXA6IDMuMTQ5LjIzMi44NyA= جزيرة ام اند امز