أزمة ليبيا المالية.. مواطن مطحون وتبرير حكومي ومشهد مرتبك
تجلت في عدم صرف الرواتب لشهرين أو ثلاثة
أزمة ليبيا المالية، تتجلى في مواطن مطحون لم يقبض راتبه، وحكومه تبرر الأزمة وتقف عاجزة عن حلها، ومشهد مرتبك لا يبدو معه أي أفق للحل
لم يدر بخلد المواطن الليبي مصطفى بن عامر "46 عامًا"، أنه سيضطر يوما إلى التهرب من صاحب محل المواد الغدائية القريب من بيته لتراكم الديون عليه.
بن عامر، وهو أب لخمسة أطفال ويعمل مدرسا، قال لبوابة "العين" وهو يحاول حبس دموعه: " تأخر الراتب لثلاثة أشهر وضعني في هذا المشهد، الذي لا يليق بي".
هذه الأزمة التي يعاني منها "بن عامر"، تكررت لدى الآلاف من العاملين بالحكومة والشركات الخاصة، ومنهم فتحية بركة "37 سنة"، الموظفة في إحدى الشركات، التي قالت إنها دون راتب منذ شهرين، وكذلك زوجها لم يتقاضَ راتبه منذ شهرين أيضًا.
وتبدو مشكلة فتحية أشد قسوة، فهي كما قالت لبوابة "العين" تسكن في بيت بالإيجار وصاحب البيت بات يزعجهم بالتعجيل في دفع ما تراكم عليهم من ديون.
وباتت المرتبات في ليبيا من الأمنيات التي ينتظر المواطن تحقيقها، وما أن يسمع الخبر الذي طال انتظاره، عن إيداعها في المصرف، حتى يفاجئ بمشكلة أخرى، وهي أن السيولة النقدية غالباً غير متوفرة.
وتغلق المصارف أبوابها في كثير من الأحيان بسبب ندرة السيولة، لتوصد معها جيوب الراغبين في سحب مستحقاتهم المالية، والتي غالبًا ما تكون راتبًا قد وصل بعد طول غياب، وفي أحسن الأحوال يجبر المصرف المواطن على سحب قيمة مالية محددة لا يمكنه تجاوزها في اليوم الواحد كطريقة يتبعها لتوزيع ما يمتلكه من سيولة في خزائنه لصرفها على المصطفين في طوابير داخله..
الانقسام السياسي
ويرجع "فتحي عقوب" عضو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، هذا المشهد إلى عده عوامل، يأتي في مقدمتها "الانقسام السياسي".
ويقول عقوب عبر صفحته الشخصية على موقع "فيس بوك، أن الانقسام السياسي والمتمثل في (ثلاثة حكومات) وأزمة إقفال الموانئ والحقول النفطية والاشتباكات المسلحة على رقعة جغرافية واسعة من البلد، وتغول منظومة الفساد الإداري والمالي، كلها عوامل أسهمت بشكل كبير في تفاقم أزمة شح السيولة المالية.
وأضاف أن هذه الأزمات أدت إلى انعدام الثقة في الدولة، مما جعل أصحاب الأموال يكتنزون ما لديهم من عملة نقدية ولا يودعونها البنوك، ما خلق بالتالي مشكلة حقيقية في حجم النقد داخل المصارف.
ويشير "عقوب" إلى وجود 24 مليار دينار يتم تداولها خارج القطاع المصرفي ويكتنزها رجال الأعمال.
وقال: "لو أن ما قيمته فقط 10 في المئة من هذا المبلغ أودع المصارف لانتهت الأزمة على الفور".
فوبيا الأزمات
وفي محاولة لمعرفة أسباب إقدام المواطن على هذا المسلك، يقول مراقب الخدمات المالية بطرابلس، عيسى المختار عيسى، بأن ما يحدث هو أشبه ما يكون بـ"فوبيا" يمر بها المواطن كنتاج لتتابع الأزمات المختلفة كأزمة البنزبن، وأزمة الخبز وغيرهما، وكذلك لتأثره بآراء بعض المحللين السياسين والاقتصاديين النشطين على وسائل الإعلام، والذين يصورون أن الدولة بالفعل منهارة.
ويضيف في تصريحات لـ"العين": "كل ذلك خلق حالة من الهلع عند المواطن، الأمر الذي يترتب عنه فقدانًا كاملًا للثقة في مؤسسة الدولة، فيبادر الجميع بسحب أي مبلغ لديهم في البنوك، وهذا بدوره يفاقم الأزمة ويزيد الطين بلة".
ويرى "عيسى" أن الدولة أسهمت في تعميق الهوة بينها وبين المواطن، بعدم تقديمها لأي طمأنة تجعل المواطن يعيد بعض ثقته بها، علاوة على أن عدم خروج المسؤولين عبر وسائل الإعلام لتوضيح الصورة وتوعية المواطن بحيثيات ما يحدث عبر محللين اقتصاديين وخبراء ماليين، جعل المواطن العادي غير واع بما يجري وغير مقدرٍ لحجم المشكلة.
ويكون تصرف المواطن، وفق هذه الحالة التي أوضحها عيسى، مصدره ما يتابعه عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فينطلق مباشرة لسحب كل ما لديه من قيم مالية نقدية من البنك تاركًا فراغًا ماليًّا عمّق من حجم الأزمة المالية.
ولا يخفي "عيسى" اعتقاده بأن هذه الأزمة وباقي الأزمات لم تأتِ هكذا وبمحض صدفة، بل يرى أن هناك "يدًا سوداء" تسهم في خلق هذه الأزمات لأهداف سياسية، وما إلى ذلك من أجندات.
حل خارج الصندوق
وبعيدًا عن المسؤولين الماليين، يقترح تاجر السيارات المستعملة وليد العزابي، وهو شاب ثلاثيني لا يحمل مؤهلًا ماليًّا ولا خبرة مالية، بأن تقوم الدولة ببيع الدولار في المصارف للمواطنين وبسعر أقل من سعره المرتفع جدًّا في السوق السوداء.
ويقول: "بهذا ستتمكن المصارف من سحب الأموال المخزنة عند المواطنين، وتسهم بشكل غير مباشر بتخفيض الارتفاع المخيف في أسعار السلع والخدمات والناتج في الأساس لارتفاع سعر الدولار".
وما بين معاناة المواطن وتبريرات المسؤول وتحليلات الخبراء الماليون، تتأرجح الآمال بين النور الذي يظهر في نهاية النفق، وبين رمادية المشهد الليبي الذي يصعب على المراقب بأي حال من الأحوال التكهن بمستقبله.