في ذكرى ميلاده.. أحمد زكي النجم الذي أخرج الجمهور من عتمة السينما
أحمد زكي يرحل في 27 مارس/آذار 2005؛ ليكتشف جميع من عرفه وأحبه القيمة الأكثر إنسانية لهذا النجم في حياتنا
على بعد 50 ميلاً شمال القاهرة، في مثل اليوم الـ18 من نوفمبر قبل تسعة وستين عاماً كانت مدينة الزقازيق المصرية، على موعد مع ولادة نجمها أحمد زكي، في ذلك الوقت وبعده بكثير ما كان أحد ليصدق أن هذا الشاب الأسمر صاحب الشعر المجعد والعينين السوداوين سيصبح نجماً في السينما المصرية، حيث لا صوت لرجل يعلو في بقعة الضوء الرئيسية أمام الكاميرا، مالم يكن وسيماً، وفق وجهة النظر التقليدية لمفهوم الجاذبية في السينما، كأن يكون بملامح الفنان محمود ياسين ذي الطابع الشرقي للوسامة، أو بنموذج وسامة الفنان حسين فهمي الغربية، لكن الفتى الأسمر خالف التوقعات حين أعلن انتماءه إلى الجمهور المتربع أمام الشاشة، وتجاوز حاجز الوسامة التقليدية ليصنع نجومية لبطل يشبههم، ويخرجهم من عتمة السينما إلى موقع البطولة في مربع الشاشة الكبيرة.
في عامه الرابع والعشرين، وقبيل تخرجه من معهد القاهرة للفنون المسرحية بعام واحد، نجح أحمد زكي في إثبات حضوره، حين أفرد لنفسه مكاناً مميزاً وسط طلبة (مدرسة المشاغبين) الذي ملّكهم النص، باستثنائه هو، أسباب تميزهم فيها. وسرعان ما يعود الشاب الأسمر النحيل مجدداً وسط (العيال كبرت) ليؤكد حضوره، ويثبت حقيقة أن كل ما ينطق بملامح الناس البسطاء فيه، قادر على أن يفعل ما يبهجهم.
نجاح أحمد زكي في "العيال كبرت" كان سبقه تأكيد لنجوميته في السينما، رغم مساحة دوره المحدودة، حين قدم شخصية "متولي" في فيلم "شفيقة ومتولي" للمخرج علي بدرخان والكاتب صلاح جاهين، إلى جانب نجمة تلك الفترة الراحلة سعاد حسني. التي وقف إلى جانبها مجدداً في فيلم "موعد على العشاء" في العام 1981.
ولم تمض سوى سبع سنوات على اللقاء الأول الذي جمعه مع الفنانة سعاد حسني، حتى كان أحمد زكي، لا يتقاسم دور البطولة مع السندريلا في مسلسل "هو وهي" (1985) وحسب، وإنما كان يقاسمها أضواء النجومية أيضاً، بوصفه استاذاً لا تلميذاً يحظى بدور البطولة، بل سيعود ليشاركها بطولة فيلم "الراعي والنساء" في العام 1991 وهو يفوقها نجومية أيضاً.
ابتداء من مطلع ثمانينيات القرن الفائت كان من الصعب على السينما أن تسقط من ذاكرتها عدداً من أفلام أحمد زكي، و في مقدمتها: "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" (1981)، "الراقصة والطبال" (1984)، "البريء" (1986)، "البيه البواب" (1987)، "أربعة في مهمة رسمية" (1987)، "أحلام هند وكاميليا" (1988). "البيضة والحجر" (1990)، "الهروب" (1991)، "ضد الحكومة" (1992)، "اضحك.. الصورة تطلع حلوة" ( 1998)، "أرض الخوف" (2000)، "معالي الوزير" (2002).. وفي هذه الأفلام وسواها نجح أحمد زكي في تجاوز نموذج الشكل المثالي للجمال، واستطاع أن يستحوذ على اهتمام المخرجين لبراعته في الأداء وقدرته الفائقة على تصوير شخصياته وتجسيد أحاسيسها والصراعات التي تشغلها، وذلك اعتماداً على لغة الجسد، لاسيما في وجهه، فكان بريق العينين، ونظراتها التي تختلط فيها المشاعر المتناقضة من حب ورغبة وغضب وتمرد ولين وحنين، وسيلته في عكس هذه التناقضات على الشاشة وفقا لمتطلبات الدور، إلى جانب الشفتين المزموتين اللتين بديتا ركيزة أساسية في لغة الجسد التي استخدمها، واستطاع عبرها تقديم تجارب صادقة في الأداء السينمائي، مؤثرة ببساطتها في التعبير.
مرحلة خاصة وفريدة في تجربة أحمد زكي، كانت عنوانها "الصراع من النسيان" حين قدم ثلاثة من أهم أفلام السيرة هي " ناصر56" (1996) عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفيلم "أيام السادات"(2001) عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وأخيراً فيلمه "حليم" (2006) عن العندليب المصري عبدالحليم حافظ الذي عرض بعد رحيله بقرابة عام.
وفي هذه التجارب امتلك أحمد زكي حساسية عالية في تجسيد التفاصيل الحسية لشخصياته التمثيلية، وذلك بدمج ملامح الجسد ومظهره وحركته المعروفة، مع جمالية التعبير الجسدي، على نحو لم يكن أحمد زكي، مجرد مقلد للشخصيات الثلاثة المحفورة تفاصيلها في ذاكرتنا، وإنما استطاع تقديم صورة تحرض ردة فعل فينا، وتثير تداعيات تتعلق ظاهرياً بالتركيب الجسدي أو الحركة لشخصياته، ولكنها تنبع من مفاهيمه، كممثل، التي كانت تضفي على الصورة الجسدية المعروفة، معنىً يثير ذكرياتنا ومشاعرنا وتجاربنا العاطفية، كمشاهدين، تجاه تلك الشخصيات ومعها أو بسببها.
في 27 مارس/ آذار 2005 شهد العالم العربي رحيل نجمه الأسمر، وفي وداعه سيكتشف جميع من عرفه وأحبه القيمة الأكثر إنسانية لأحمد زكي في حياتنا، قيمة أن يكون بطلاً أمام الكاميراً، واحداً من الناس البسطاء خلفها.
أما القيمة الأكثر فنية للفنان الراحل، فكانت بداية في تحرير المشاهد من هيمنة صورة الشاشة وملامحها في قياس الأشياء، ليجعله هو الصورة نفسها، وتالياً في عدم اعتماده على ثقله كممثل ومحبته بين الناس في تقديم شخصياته، إذ لطالما حرص في جميع أفلامه على إضفاء طبيعة لها جذور في الواقع على شخصياته التمثيلية، ومزج ذاته مع البناء الدرامي لتلك الشخصيات كما قدمها الورق، على نحو ينساه الجمهور كممثل، ويستجيبون لشخصيته الجديدة، فكنا لا نفكر بأحمد زكي وإنما بمصير "أحمد سبع الليل" بطل "البريء" بعد أن تمرد على إدارة السجن الذي يخدم فيه، و بعيداً عن محبتنا لنجمنا الأسمر كنا نسر لما آل إليه مصير " العقيد هشام أبو الوفا " في فيلم "زوجة رجل مهم" بعد كل هذا الجبروت الذي مارسه على زوجته "منى" (ميرفت أمين)، وكم شعرنا بالغضب من "الراقصة مباهج" (نبيلة عبيد) في فيلم "الراقصة والطبال" بعد كل الأسى الذي سببته للطبال "عبده" وكم أحببنا "سيد غريب" في فيلم "اضحك.. الصورة تطلع حلوة"، وكم ابتسمنا لدهاء "عبدالسميع" في فيلم "البيه البواب"، وكم كرهنا تلاعب "المحامي مصطفى" في فيلم "ضد الحكومة" قبل أن تتبدل مشاعرنا تجاهه ونتعاطف مع قضيته، بعد تبدل علاقته مع حادث اصطدام قطار بسيارة طلاب المدرسة من محام مبتز يسعى للاستفادة من تعويض الضحايا إلى أب يدافع عن حق ابنه.
مع كل تلك الشخصيات كان أحمد زكي يستحوذ على تركيزنا الكامل بنبرة صوته وإيقاعات كلامه ولغة جسده وسلوكه الشعوري واللاشعوري، فكنا ننساه ونحن نتابع الفيلم لنتبنى شخصياته، ونعود ما أن نغادر عتمة صالة السينما، أسرى لجاذبيته الخاصة، و لشخصيته القادرة على فعل ما يبهج في الحياة، في حضوره وفي غيابه.
aXA6IDMuMTUuMjAzLjI0NiA=
جزيرة ام اند امز