الرئيس الأمريكي أعرب عن عدم رضاه عن سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي.
في سابقة تعد الأولى من نوعها أعرب الرئيس الأمريكي عن عدم رضاه عن سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) التي تذهب إلى رفع أسعار الفائدة مرتين خلال الفترة المتبقية من هذا العام. وتتركز انتقادات ترامب على كون رفع أسعار الفائدة يرفع من سعر صرف العملة الأمريكية مقابل عملات شركائها التجاريين الرئيسيين، بما يضع الولايات المتحدة على حد قولة في "موقف غير موات" مع استمرار بنك اليابان المركزي والبنك المركزي الأوروبي في سياستهما النقدية التيسيرية التي تحافظ على أسعار الفائدة فيهما منخفضة.
ويعمل ارتفاع سعر صرف عملة أي بلد على جعل أسعار صادراته أكثر ارتفاعا ويخفض من أسعار وارداته بما يدفع نحو زيادة الواردات وانخفاض الصادرات، وفي حالة الولايات المتحدة يؤدي ذلك إلى زيادة العجز التجاري، في حين أن سياسة الرئيس التجارية تهدف إلى عكس ذلك تماما. وبالرغم من التراجع الذي أتى على لسان وزير الخزانة الأمريكي بقوله إن "هذه ليست محاولة من الرئيس بأي شكل من الأشكال للتدخل في سوق العملات".. وتأكيده على أن الرئيس يدعم استقلال الاحتياطي الفيدرالي، إلا أنه كانت هناك آثار لتصريحات ترامب في اتجاه سعر الدولار ولو لوقت محدود للانخفاض بعد أن كان يتجه للارتفاع.
قد تميل بعض البلدان إلى تغيير سياستها النقدية إثر تغير السياسة النقدية الأمريكية، وبحيث تكون أسعار صرف عملاتها أكثر تحقيقا لمصالحها التجارية العالمية، ويحدث ذلك خاصة في حال انخفاض سعر صرف الدولار.
مع ذلك فالأمر يتعدى بكثير الاقتصاد الأمريكي وحده، إذ نظرا للدور الكبير الذي تلعبه العملة الأمريكية في الاقتصاد العالمي يمكن القول دون أدنى مبالغة إن السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف الأمريكية تلعب دورا كبيرا ومؤثرا في جميع الأسواق العالمية وفي اقتصادات العالم كافة صغيرها وكبيرها على السواء.
الدولار سيد العملات دون منازع
الواقع أن احتلال الدولار لمكانة سيد عملات العالم يعود إلى تاريخ طويل، فحينما انتهت الحرب العالمية الثانية، كانت معظم بلدان العالم وعلى رأسها بلدان أوروبا المتقدمة صناعيا قد دُمرت تماما، ولم يستثن من هذا المصير سوى بلد واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. إذ كان الناتج الأمريكي عند نهاية الحرب يصل إلى ما يقرب من 60% من إجمالي الناتج العالمي، كما أن أمريكا كانت القوة التجارية الرئيسية في العالم مع تحقيقها فائضا في ميزانها التجاري يزيد على 4.5 مليار دولار في عام 1948. وقد حدث هذا لأن باقي دول العالم خاصة الأوروبية منها لم يكن لها من سبيل لتعمير اقتصاداتها سوى عبر ما عرف بمشروع مارشال، وكان المشروع يعتمد على تصدير السلع الأمريكية للخارج، وهو ما أدى لتحقيق فائض تجاري لصالح أمريكا استمر حتى عام 1968.
وكما ذكر روبرت ماندل الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهماته في موضوع السياسات النقدية ونظام النقد الدولي "خرجت أمريكا من كلا الحربين العالميتين باعتبارها القوة المهيمنة عسكريا وصناعيا وماليا وأصبح الدولار هو العملة العالمية، وهو ما يعد حقيقة تاريخية تقليدية حيث القوة الأكبر هي التي توفر العملة الأقوى، فالنقود ظاهرة سياسية تعكس-وتشكل إلى حد ما-الوضع السياسي في العالم، لذا كانت القوة السياسية الرئيسية لها عادة دور قيادي في تشكيل أو رفض طبيعة النظام النقدي الدولي".
وكان من الطبيعي أن يصبح الدولار الأمريكي وسيلة الدفع المعتمدة في حلبة التجارة الدولية، وعلاوة على دوره كوسيلة دفع، كان التزام الولايات المتحدة الأمريكية بقابلية تحويل الدولار إلى وزن محدد من الذهب (العملة الوحيدة بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت لديها هذه القابلية) يدعم باستمرار الثقة فيه، وجعله دون منازع عملة الاحتياطي الدولي. فحينما استعادت الدول الأوروبية جزءا كبيرا من قدراتها الاقتصادية، وخرجت اليابان بعد الحرب كقوة اقتصادية جديدة وبداية تحقيق هذه البلدان لفوائض في موازين مدفوعاتها لم يكن هناك خوف من الاحتفاظ بالاحتياطيات الدولية في هيئة دولارات طالما أن جميع الدول التي تحقق فائضا يمكنها بسهولة وفي أي لحظة شاءت أن تحول هذه الدولارات إلى ذهب. وكما يقول ماندل "أصبح الدولار عملة المدفوعات الأساسية، والاحتياطيات النقدية، ووحدة المحاسبة، ووحدة العطاءات والتعاقدات، ومرجع القيمة، ووحدة المدفوعات المؤجلة، وأداة تسوية المنازعات، ومقياس الأسعار العالمية". لكن أمريكا في ظل هذه المكانة العالمية المنفردة للدولار أضحت تطبع المزيد من الدولارات، فالسياسة النقدية والمالية الأمريكية لم تكن تخشى ارتفاع معدل التضخم الناتج عن الإفراط في السيولة النقدية المتاحة في الأسواق طالما أن دول العالم أجمع تقبل طوعا، بل وترحب باستيعاب أي كمية من الدولارات تقوم بطرحها السلطات النقدية الأمريكية. ولكن بمرور الوقت بدا من الواضح للإدارة الأمريكية أن حجم ما هو متاح في الأسواق من أوراق العملة الخضراء يزيد على ما هو متاح من احتياطيات الذهب، ولذا قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فجأة في عام 1971 فصم العلاقة بين الدولار والذهب. وتحول كل ما لدى العالم من دولارات إلى أوراق تتيح لصاحبها حقوقا على الإنتاج الأمريكي (أي يمكن شراء السلع الأمريكية بها) أو أداة للاستثمار في السوق الأمريكي، ولكن ليس أكثر من ذلك. ونتيجة لهذا دخل النظام النقدي الدولي المستند للدولار في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابت الذي تقرر في اتفاقيات بريتون وودز في عام 1944 (الاتفاقيات التي تم بناء عليها تأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين) إلى نظام أسعار الصرف المعومة في عام 1973. ومع ذلك استمرت دول العالم أجمع في قبول الدولار كعملة عالمية وخاصة كوسيلة دفع وتسعير للعديد من السلع (خاصة السلع الأولية وعلى رأسها النفط). واستمرت دول العالم في الاحتفاظ باحتياطياتها في صورة دولارات، واستمرت أمريكا لا تعاني من قلق كبير جراء العجز في ميزان تجارتها طالما أنها-وعلى خلاف دول العالم كافة -كان بإمكانها أن تدفع بعملتها الخاصة التي تقبل بها بقية دول العالم كعملة الاحتياطي الأولى. وقد عزز من هذا الوضع بزوغ قوة تجارية جديدة جبارة منذ السبعينيات هي اليابان، التي حققت فوائض مستمرة في ميزان مدفوعاتها وقبلت بالدولار كعملة لاحتياطياتها النقدية، بحيث كانت اليابان هي أكبر بلد حائز للدولارات خارج الولايات المتحدة (قبل أن تسبقها الصين مؤخرا). وسلكت بلدان آسيا الناهضة اقتصاديا في بداية الثمانينيات هي الأخرى نفس السلوك، ثم مع منتصف الثمانينيات وبروز الصين كقوة تجارية دولية تحقق فوائض هائلة يُحتفظ بأغلبها في شكل دولارات.
قنوات لتأثير السياسة النقدية الأمريكية
هناك ثلاث قنوات رئيسية تنتقل عبرها قرارات السياسة النقدية الأمريكية، تتمثل في:
قناة التجارة إذ أن الولايات المتحدة ما زالت أكبر مستورد في العالم وثاني أكبر مصدر، وبالتالي فارتفاع أسعار الفائدة وما يترتب عليه من ارتفاع في سعر صرف الدولار مع زيادة الإقبال عليه تؤدي إلى جعل السلع المصدرة للسوق الأمريكي أقل سعرا، وفي الوقت ذاته ترفع من أسعار السلع الأمريكية في أسواق العالم المختلفة، وهذا هو ما كان محل الاهتمام الوحيد للرئيس الأمريكي في سياسة مجلس الاحتياط الفيدرالي.
إلى جانب ذلك قد تميل بعض البلدان إلى تغيير سياستها النقدية إثر تغير السياسة النقدية الأمريكية، وبحيث تكون أسعار صرف عملاتها أكثر تحقيقا لمصالحها التجارية العالمية، ويحدث ذلك خاصة في حال انخفاض سعر صرف الدولار.
القناة الثانية تتمثل في التأثير على اتجاهات الاستثمار وعلى أسعار السلع في السوق العالمي. إذ يعمل ارتفاع سعر صرف الدولار على زيادة أسعار السلع العالمية مقومة بعملات الدول الأخرى، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب عليها، وبالتالي التأثير على أسعارها في السوق العالمي.
وربما نلحظ أن التأثير الفوري هو على أسعار الذهب لكونه ملاذا آمنا للاستثمارات الدولية، لا سيما في أوقات الاضطرابات الاقتصادية وانخفاض العائد من الاستثمارات الأخرى وتقلبه. ولكن مع رفع أسعار الفائدة الأمريكية يصبح الاستثمار في الدولار الأمريكي أفضل لارتفاع العائد عليه مقابل عدم وجود عائد على الإطلاق في الاحتفاظ بالذهب، مما يخفض من الطلب عليه وتنخفض بالتالي أسعاره في السوق العالمي. وينطبق الأمر نفسه لا سيما على الاستثمار في الأوراق المالية كالأسهم والسندات.
ونشير أيضا إلى أن العديد من السلع الأخرى، خاصة السلع الأولية، تميل أسعارها للانخفاض مع ارتفاع سعر صرف الدولار، ويأتي على رأسها النفط والحديد والنحاس والسلع الغذائية وغيرها.
القناة الثالثة تتمثل في الأثر المباشر للسياسة النقدية الأمريكية والمتمثل في تغيير السياسة النقدية في البلدان التي ترغب في الحفاظ على ربط شبه ثابت لأسعار صرف عملاتها مقابل الدولار الأمريكي. حيث عادة ما يعقب أي قرار لمجلس الاحتياط الفيدرالي بشأن سعر الفائدة بالرفع أو الخفض قرار مماثل من قبل السلطات النقدية في هذه البلدان، وبما يحمله ذلك من آثار على النشاط الاقتصادي بها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة