معركة الدولة الليبية في مواجهة المليشيات.. اصطفافات كاشفة
تشكل عملية "طوفان الكرامة" التي أطلقها المشير حفتر ضرورة ملحة من أجل إنهاء حالة توازن الضعف القائمة بين شرق ليبيا وغربها
تتسم العمليات العسكرية التي تشهدها الأراضي الليبية منذ الرابع من أبريل/نيسان الجاري بحالة من الديناميكية الشديدة في ظل كونها حربا غير نظامية تتم بين الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر ومليشيات مسلحة تسيطر على العاصمة طرابلس مدعومة سياسياً من حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.
معركة مناطقية حتمية
تشكل عملية "طوفان الكرامة" التي أطلقها المشير حفتر ضرورة ملحة من أجل إنهاء حالة توازن الضعف القائمة بين شرق ليبيا وغربها، وهو صراع مناطقي ظهر مع بداية الثورة الليبية واستمر حتى هذه اللحظة، وفي ظل افتقاد حكومة الوفاق الوطني لأدوات التنظيم والضبط في ظل عدم قدرتها على الاحتكار الشرعي للقوة، وتسليمها الأمر لمجموعة من المليشيات المسلحة التي لا تمثل بأي شكلٍ من الأشكال هياكل أمنية وطنية يمكن البناء عليها من أجل الانتقال إلى دولة ليبية موحدة.
كذلك فإن أغلب عوائد النفط الليبي تذهب إلى مصرف ليبيا المركزي الموجود في طرابلس الذي يقوم بدوره بتمويل بعض المليشيات المُسلَّحة ومنها كتيبة النواصي التي تدعم حكومة الوفاق، ومن ثم فإن استمرار تدفق تلك العوائد إلى العاصمة طرابلس من شأنه توفير استمرار زخم وقوة تلك المليشيات بما يزيد من حالة عدم الاستقرار في ليبيا.
ولا شك أن انضمام إبراهيم الجضران الرئيس السابق لجهاز حرس المنشآت النفطية، المُدرج على قائمة العقوبات الدولية والأمريكية، إلى السرَّاج ودعوته الليبيين من أجل الوقوف ضد حفتر، إنما يؤكد طبيعة تلك القوى المليشياوية المُسلَّحة التي يعتمد عليها السرَّاج.
في وقتٍ دعا فيه المشير حفتر قواته من الجيش الوطني الليبي بالتحرُّك نحو العاصمة طرابلس دون المساس بالمدنيين، وعدم رفع السلاح إلا على من واجه القوات الداخلة إلى طرابلس بالسلاح، وطالب بالحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة وأمن المواطنين والرعايا الأجانب خلال العمليات العسكرية.
أبرز المليشيات الموجودة في طرابلس
أعلنت بعض المليشيات المُسلَّحة الداعمة لحكومة الوفاق الوطني والمدعومة منها عن صدّ هجوم الجيش الوطني الليبي على غرب ليبيا، وهي مليشيات ضالعة في أعمال إرهابية، وتقوم بأنشطة موازية لأدوار وزارة الداخلية من خلال محاولة حماية المؤسسات وضبط الأمن في العاصمة طرابلس دون أن يكون ذلك بشكل مؤسسي أو منظم.
ويعتبر تحالف "قوات حماية ليبيا" المتمركز في العاصمة والذي تَشكّل في أواخر عام 2018 بهدف الحفاظ على الأمن في طرابلس، هو أحد أبرز الداعمين لحكومة الوفاق، ويتكون التحالف بشكل رئيسي من أبرز المليشيات الداعمة للسرَّاج وحكومته، مثل ثوار طرابلس، قوة الردع والتدخل المشتركة، لواء النواصي، ومليشيا باب تاجوراء.
وتعتبر مليشيا ثوار طرابلس التي يقودها هيثم التاجوري أحد أبرز المليشيات الموجودة بالعاصمة في إطار هذا التحالف، خاصة أنها تسيطر على مساحات كبيرة من العاصمة وتحصل على تمويل قطري، علاوة على عوائد الجريمة المنظمة مثل الاتجار بالمخدرات، وتعادي تلك المليشيا الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بشكل كبير.
والأمر نفسه ينطبق على لواء النواصي المعروف كذلك بالقوة الثامنة، والذي يناصب حفتر العداء، حتى أنه قد قام بنشر دبابات في شوارع العاصمة طرابلس اعتراضاً على اعتراف وزير خارجية حكومة الوفاق محمد سيالة في منتصف عام 2017 بحفتر كقائد عام للقوات المُسلَّحة الليبية آنذاك.
أدوات "الوفاق الوطني"
لجأت حكومة الوفاق الوطني إلى استخدام عدة أدوات من أجل مواجهة عملية تحرير طرابلس من قبضة المليشيات المُسلَّحة التي أطلقها المشير خليفة حفتر، ويمكن رصد تلك الأدوات على النحو التالي:
- الردّ العسكريّ: أعلن السرَّاج عن إطلاق عملية "بركان الغضب" في السابع من أبريل/نيسان كردّ فعل على العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، والتي بدأت في الرابع من أبريل، وتتشكّل قوات السرَّاج بالأساس من عدد من المليشيات المُسلَّحة، وبالتالي فإن هناك ثمة حرب غير نظامية بين جيش موحّد ومجموعة من المليشيات.
- مساومة الأوروبيين: يحاول السرَّاج استخدام ورقة اللاجئين من أجل مساومة الدول الأوروبية على ضرورة الوقوف بجانب حكومة الوفاق الوطني، وذلك في ضوء تحذيره من أن ذلك الصراع المتُجدّد قد يدفع أكثر من 800 ألف مهاجر ليبي بالتحرُّك نحو السواحل الأوروبية، خاصة في ظل ما يمثله اللاجئون من معضلة وإشكالية كبيرة للدول الأوروبية في ظل تزايد موجات اللجوء بالتحديد منذ عام 2011.
- إثارة المدنيين الليبيين: حيث إن القصف الصاروخي والمدفعي العشوائي الذي شهدته العاصمة طرابلس ليل الخامس عشر من أبريل/نيسان إنما يؤكد محاولة حكومة الوفاق الوطني إثارة المدنيين والقبائل المحايدة ضد المشير خليفة حفتر، حيث سارعت المليشيات المسلحة إلى اتهام الجيش الوطني الليبي بالوقوف وراء ذلك القصف العنيف، وهو ما نفاه المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي جملة وتفصيلاً في بيانٍ رسمي، توعّد فيه بمحاسبة مرتكبي مثل هذه الأعمال الإرهابية بهدف قطع الطريق على حكومة السرَّاج في محاولاتها لإثارة المدنيين ضد حفتر وقواته.
- الاحتماء بالإرهابيين: إن حرص السرَّاج على حشد المليشيات المسلحة التي انخرطت أغلبها في أعمال إرهابية إنما هو سعي نحو استغلال قوة تلك المليشيات العسكرية من أجل منحهم شرعية سياسية مستقبلاً ودمجهم في أي مكتسبات محتملة، ومن ثم فإن ذلك التعاون المشروط قائم على توفير الحماية والأمن من المليشيات للسراج وحكومته، في مقابل قيامه بمنحهم الشرعية وجزءا من أي مكتسبات سياسية محتملة، ولا شك أن ظهور داعش بالتزامن مع الوضع الحالي في طرابلس إنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحراك حكومة الوفاق وخطابها القائم على استدعاء الإرهابيين والاحتماء بهم، حيث ذكرت رويترز في الـ11 من أبريل/نيسان الجاري أن تنظيم داعش الإرهابي قتل 6 من قوات الجيش الوطني الليبي قرب مدينة سبها جنوب غربي ليبيا.
اصطفافات قطرية تركية كاشفة
شكل الموقف القطري التركي المتضامن مع حكومة الوفاق الوطني اصطفافا كاشفا وفاضحا لما يمثله ذلك من دعم مباشر للمليشيات المسلحة الموجودة في العاصمة طرابلس، وهو أمر ليس بغريب على الدولتين، خاصة أن هناك سوابق وأدلة على ذلك، فقد تم ضبط سفينة تركية محملة بالأسلحة في أحد موانئ شرق العاصمة طرابلس في ديسمبر عام 2018، وتعد تلك الواقعة هي الثانية بعد إعلان اليونان في مطلع عام 2018 عن ضبط سفينة تركية كانت متجهة إلى ليبيا بنحو 500 طن من المتفجرات، وتأتي تلك التحركات التركية المشبوهة رغم قرار الأمم المتحدة بحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، بما يمثل انتهاكا تركيا جسيما للقانون الدولي.
أما قطر فكانت أعلامها ترفرف وسط المليشيات المسلحة الموجودة في غرب ليبيا، وقد قام أحمد المسماري المتحدث الرسمي باسم الجيش الوطني الليبي بفضح قطر في مؤتمر صحفي في منتصف عام 2017، مدعوماً بالصور ومقاطع الفيديو عن دعم قطر للإرهابيين في الغرب الليبي، من خلال طائرات تابعة للخطوط الجوية القطرية التي تنقل أسلحة وذخائر إلى الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة عبر مطار طرابلس.
ولذا فقد كان مفهوماً أن يأتي الرد القطري مندداً بعملية الجيش الوطني الليبي، وداعماً لتلك المليشيات الموجودة في الغرب، حتى أن المسماري أكد في مؤتمر صحفي في 16 أبريل/نيسان الجاري أن قطر تدعم الإرهاب في ليبيا، ورفض تصريحات رئيس الوزراء القطري محمد بن عبدالرحمن التي هاجم فيها الجيش الوطني ووصفه أنه "مليشيات" تحاول عرقلة الجهود الدولية للتوصل إلى حوار يجمع الأطراف الليبية.
وفي ضوء ذلك جاءت زيارة وزير خارجية قطر إلى روما في 16 أبريل/نيسان الجاري من أجل تدويل المسألة، والحصول على دعم إيطالي أكبر لحكومة الوفاق الوطني، خاصة أن الغريم الأوروبي في ليبيا وهو فرنسا كان عرقل بياناً من الاتحاد الأوروبي ينتقد العملية التي قام بها الجيش الوطني الليبي، قبل أن تنفي الخارجية الفرنسية ذلك في 11 أبريل/نيسان، وتؤكد أن فرنسا تريد تعزيز نصّ بيان الاتحاد الأوروبي بشأن ليبيا في 3 مجالات، هي وضع المهاجرين، ومشاركة جماعات خاضعة لعقوبات الأمم المتحدة، وسُبل التوصل لحل سياسي مدعوم أممياً.
مستقبل الوضع في ليبيا
على الرغم من النجاحات السريعة التي حققها الجيش الوطني الليبي في بداية هجومه على طرابلس إلا أن ذلك النجاح قد أخذ في التباطؤ ارتباطاً بطبيعة الحرب غير النظامية التي تكون بين جيش وطني وبين مجموعة من الفاعلين المسلحين من غير الدول أو المليشيات المسلحة، ومن ثم فإن المعركة القائمة في الوقت الحالي هي معركة النَفَس الطويل، وهي معركة من الصعب حسمها بشكل سريع لكنها تمثل أداة ضغط مهمة من أجل إضعاف حكومة الوفاق الوطني عسكرياً وكذلك سياسياً.
لا سيما أن التوافق الذي بني عليه انضمام المليشيات المسلحة إلى جانب حكومة الوفاق الوطني، هو توافق هش ومرحلي، ومرتبط بما يمكن أن يتم تحقيقه من مكاسب سياسية لاحقة، خاصة أن هناك خلافات بين بعض تلك المليشيات وبين حكومة السرَّاج، ولعل مليشيات مصراتة مثال على ذلك، حيث إن تلك المليشيات قادت عملية عسكرية من أجل طرد حكومة الوفاق من طرابلس في مايو عام 2017، إلا أنها أعلنت مؤخراً عن دعمها للسرَّاج في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ومن ثم فإننا أمام معركة عسكرية بين مشروعين متباينين، أحدهما وطني يقوده حفتر وهو مشروع الدولة الوطنية الليبية الموحدة بجيش وطني قوي، والآخر غير وطني يقوده السراج ومن خلفه قطر وتركيا، وهو مشروع دولة المليشيات القائم على أن مَن يملك السلاح يملك القوة والنفوذ السياسي، وهو مشروع يفضي إلى تكوين دولة ليبية مفككة وهشة بجيش مكون من مجموعة من الإرهابيين.
aXA6IDE4LjExOC4xOTMuMjgg جزيرة ام اند امز