سينما متنقلة تبحث عن أطفال سوريا
ذاكرة الأكراد لا تزال مطبوعة بحادثة عامودا عام 1960 عندما اندلع حريق ضخم أثناء اكتظاظ السينما بمئات التلاميذ وتوفي أكثر من 280 طفلاً
أمام شاشة عرض مثبّتة على جدار، يغرق فتيان وفتيات في نوبات من الضحك وهم يتابعون فيلماً بالأبيض والأسود لتشارلي تشابلن، في إطار مشروع سينما متنقلة بشمال شرق سوريا، هدفه تعريف الجيل الناشئ على الفن السابع.
يجول المخرج الكردي شيرو هندي من قرية إلى أخرى في مناطق الإدارة الذاتية بشمال شرق سوريا، يحمل وفريقه معداتهم من جهاز عرض وشاشة وحاسوب ومكبرات صوت، ثم يختارون مكان العرض ويحددون موعد استقبال الأهالي خصوصاً الأطفال.
في باحة مدرسة قرية سنجق سعدون ينتظر الأطفال من فتيان وفتيات بحماسة بدء عرض الفيلم الذي يروي قصة متسول ينقذ حياة طفل، يأخذ كل منهم مكانه على الكراسي البلاستيكية الملونة التي سرعان ما امتلأت.
ينهمكون في أحاديث جانبية أو يتبادلون الضحكات مع المخرج قبل أن يطل عليهم تشارلي تشابلن في فيلمه الصامت "الطفل" الذي أخرجه وأنتجه في عام 1921.
وقبل دقائق من بدء العرض، لم يجد بعض الحاضرين كرسياً للجلوس عليه فاختاروا المشاهدة وقوفاً.
لا يحيد الأطفال نظرهم عن الشاشة، تتعالى قهقهاتهم بشكل متكرر بين مشهد وآخر لا سيما لدى محاولة بطل الفيلم أن يمسح أنف طفل يشاركه التمثيل بعد احتسائه الحليب من إناء مخصص لري المزروعات.
التوعية
يتنقل شيرو، 39 عاماً، بين الأطفال الذين ترتسم ابتسامة عريضة على وجوههم، يراقبهم من بعيد فرحاً بتفاعلهم مع فيلم قديم بهذا الشكل.
ويقول: "عرضنا أفلاماً في مدن عدة سابقاً، لذلك رأينا أن يكون لأطفال القرى أيضاً نصيب من مشاهدتها".
نظراً لصعوبة إيجاد مراكز ثقافية أو صالات عرض، وبسبب إصراره على ألا يُحرم أحد من مشاهدة السينما، اختار شيرو أن يبادر إلى تنفيذ مشروع السينما المتنقلة.
ويوضح: "هدفنا خلال عام ألا يبقى طفل في روجافا (أي غرب كردستان) لم يشاهد فيلماً سينمائياً، نعرضها لزرع ثقافة مشاهدة الأفلام لديهم".
واختار فريق المشروع فيلم تشابلن لتعريف الأطفال على "السينما العالمية منذ تكوينها، وزرع معرفة السينما في وعيهم".
تعرض السينما المتنقلة أفلاماً متنوعة أمريكية وفرنسية، بينها رسوم متحركة بعد دبلجتها إلى اللغة الكردية.
ذكريات عالقة
لم تكن السينما يوماً مصدر اهتمام كبير في المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال شرق سوريا، ولم تكن دور السينما الموجودة والمحدودة العدد أساساً تقدم إلا أفلاماً غير معروفة منها الهندية، قبل أن تغلق أبوابها لاحقاً لانعدام الاهتمام بها.
وما من دور سينما حالياً في مناطق الإدارة الذاتية، بعدما تحولت معظمها إلى قاعات أعراس وحفلات.
لا تزال ذاكرة أهالي المنطقة، خصوصاً الأكراد، مطبوعة بحادثة سينما عامودا عام 1960، حين اندلع حريق ضخم أثناء اكتظاظ السينما بمئات التلاميذ، ما أسفر عن وفاة أكثر من 280 طفلاً.
ويوضح شيرو، الذي أخرج قبل سنوات فيلماً كردياً بعنوان "قصص المدن المنكوبة"، يستعيد ما تعرضت له بعض المدن ذات الأغلبية الكردية نتيجة المعارك مع تنظيم "داعش" الإرهابي بينها كوباني، أن "السينما في طفولتي كانت ذاك المكان المظلم".
ويضيف: "لكن بعدما تعرفت إليها، أردت أن استبدل الظلام بالألوان، نريد زرع ثقافة السينما في القرى بعيداً عن ذكريات احتراق سينما عامودا العالقة في ذاكرة الشعب الكردي".
رسوم متحركة
في قرية شاغر بازار في ريف مدينة عامودا، أعاد شيرو وفريقه الكرّة ولكن هذه المرة بعرض الفيلم الأمريكي "سبيريت: حصان من سيمارون"، وهو فيلم رسوم متحركة صدر في 2002، ويروي قصة حصان خلال الحرب الأمريكية في القرن التاسع عشر.
يتسابق الأطفال للوصول إلى ساحة المدرسة، ويسارعون للجلوس في الصفوف الأمامية.
رافقت أمل إبراهيم طفلتها أيلين (6 سنوات) وطفلها كادار (7سنوات) إلى العرض، تقول: "أريد أن يتعرف الأطفال على السينما"، موضحة: "أنتظر ولداي بفارغ الصبر للمجيء إلى هنا، فهما لم يشاهدا السينما أبداً من قبل".
وقرر بعض رجال القرية أيضاً حضور العرض رغم أن الفيلم عبارة عن رسوم متحركة، إذ إن بينهم من لم يذهب إلى السينما منذ عقود.
تقف مجموعة منهم جانباً، يتبادلون الأحاديث والذكريات عن دور السينما التي كانوا يرتادونها في الماضي.
ويقول عدنان جولي (56 عاماً) الذي أتى برفقة طفليه: "قبل 40 عاماً، كنت أذهب إلى سينما عامودا وأشاهد الأفلام من الخارج عبر النوافذ".
ويضيف: "كان شعور جميل يتملكني حين تنطفئ الأضواء ويبدأ الفيلم، وها هم أطفالي اليوم يشاهدون السينما ويعيدون لي ذكرياتي".
لا تقتصر أحلام شيرو وفريقه على مشروع السينما المتنقلة والمؤقتة هذه، فهم يطمحون إلى إنشاء دور سينما دائمة في شمال شرق سوريا، إلا أن هذه المهمة ليست سهلة.
ويقول شيرو: "الأمر رهن بانتهاء الحرب وتحقيق الاستقرار في البلاد".
aXA6IDE4LjExNi44Ni4xNjAg
جزيرة ام اند امز