يمكن القول إن الإرهاب في الأصل ظاهرة استخباراتية خلقت مساحات عريضة من الضغوط والمساومات والتحايلات في العلاقات الدولية.
فرض ملف الإرهاب نفسه بإلحاح على قمة شرم الشيخ العربية-الأوروبية التي عقدت يومي 24 و25 فبراير (شباط) الماضي، لتتأكد من جديد ضرورة تفعيل «المسؤولية الجماعية» في مواجهة الإرهاب، فالجميع «في قارب واحد»، ولا توجد دولة بمنأى عن ذلك الخطر.
وفي هذا المقام أتوقف أمام مقولة مفادها أن هناك مسؤولية عالمية تستلزم تعاوناً دولياً على الأصعدة كافة لمواجهة ظاهرة الإرهاب. وبقدر الاقتناع التام بدلالات ومضمون هذه المقولة، بقدر ما نكتشف أن النشاط الإرهابي ليس له وطن أو دين، ويتناسب طردياً مع مدى وقوف دول وقوى إقليمية ودولية بعينها وراءه ظهيراً يساعد على تناميه ويمده ويدعمه بالمال والعتاد والسلاح.
والغريب أن دولاً تدعو إلى إعلان الحرب على الإرهاب ثبت بالدليل القاطع أنها وراء نشأة الكثير من التنظيمات الإرهابية، بدءاً من تنظيم القاعدة في السبعينيات، وأنها استغلت ووظفت الإرهاب لتحقيق سياساتها وترسيخ مصلحتها، وهذا يثير الكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة، من أين جاءت ملايين الدولارات التي اكتشفت مع أفراد من الدواعش عبروا الحدود السورية إلى العراق أخيراً؟ ومَن هو ممول هؤلاء وغيرهم وقد يكون ما يخفي أعظم بكثير؟ ولماذا حثَّ البعض دواعش سوريا على التوجه إلى دول أخرى في المنطقة عبر إسرائيل؟ وأليس هناك تناقض «ما» في الخطاب الدولي بشأن الإرهاب؟ ولماذا لا توجد حتى الآن استراتيجية لاجتثاث الإرهاب من منابعه؟
نافلة القول يبقى التأكيد أن الإرهاب أيضاً ظاهرة فكرية تبدأ بتغيير الإطار المرجعي لمن ينتمي إليه وتزييف وعيه بأفكار رافضة ومتطرفة تجد مبتغاها في الأوساط المقهورة والمهمشة والتي تفتقد نسق الهوية والفكر الوسطي
في المؤتمرات والمنتديات العلنية، يندد البعض بالإرهاب ويتضامن مع ضحاياه في كل مكان ويدعو إلى التعاون الأممي للحرب على الإرهاب، ثم يختلف المشهد عندما نجد هذا البعض وفي الغرف المغلقة يدبر الخطط ويرصد الأموال للتنظيمات الإرهابية من أجل تنفيذ عملياتها هنا أو هناك! هل نحن أمام لعبة لإجبار الحكومات والشعوب على الانصياع لإرادة قوى عالمية أو إقليمية تحاول إعادة صياغة العالم من جديد إلى دول قوية تسيطر وتوجِّه (بكسر الجيم) ودول خانعة ضعيفة وتوجَّه (بفتح الجيم) ويصبح استغلال ظاهرة مثل الإرهاب أداة طيعة لتنفيذ مخططات التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى؟ يمكن القول إن الإرهاب في الأصل ظاهرة استخباراتية خلقت مساحات عريضة من الضغوط والمساومات والتحايلات في العلاقات الدولية، تلعب فيها -بلا شك- الدبلوماسية والمفاوضات الهادئة دوراً كبيراً في توجيه المصالح والتأثير على موازين القوى؛ لا سيما في المناطق الساخنة في العالم مثل منطقة الشرق الأوسط، كما يلعب أيضا ما يسمى «Dirty Works» دوراً آخر خفياً، بحيث تصب هذه الأدوار في سياسات المصالح التي تحكم العلاقات بين الدول ليسود أنموذج الدول القوية والدول المستضعفة.
وإن كنت أرى أن ديناميات الحياة السياسية في عالم اليوم لا تجعل تقسيماً تعسفياً لهذا الأنموذج دائماً وثابتاً في بلورة مدخلات السياسة الدولية، فقد تتبادل الدول الأدوار عندما تتغير الظروف والأحداث وتتصالح المصالح، وقد شهد القرن الماضي انهيار نظام القطبية الثنائية الذي كان يمثله الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الذي انهار وانفرط عقده، أو أضحى ميزان القوى في صالح قطب واحد هو الولايات المتحدة، ولكننا نشك أن عالم القطب الواحد ستكون له الغلبة في المستقبل نظراً لاختلاف مقاييس القوة والضعف في القرن الـ21، وهنا نرى أن النظام الدولي متعدد الأقطاب هو الأكثر قبولاً في منظومة التعاون الأممي، وستكون القوة والهيمنة السياسية والاقتصادية للتجمعات السياسية المتعاونة أو المتكتلة في المدى المتوسط والبعيد، وعليه يمكن للعالم المتحضر أن يرسم استراتيجية جماعية لمكافحة الإرهاب في شكل عملي ويكون التعاون في هذه الحالة على مستويين؛ أحدهما إقليمي والآخر دولي نتناولهما على النحو التالي:
أولاً: المستوى الإقليمي للحرب على الإرهاب: تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق في العالم التي تعاني من ظاهرة الإرهاب، وأتصور أن هناك دوراً مهماً للنظام الإقليمي العربي في هذه النقطة تحديداً، لأن الكتلة العربية هي منظومة دول يمكن أن تشكل قوة مؤثرة بين دول أخرى في المنطقة مثل إيران وتركيا وإسرائيل مهما تحركت تعمل في النهاية من أجل مصالحها الخاصة، في حين أن الدول العربية في جماعيتها تمثل مصالح المنطقة بأكملها، وأن الأزمات العربية-العربية هي نتاج حالة استقطاب فرضتها ودبرتها الأطراف المشار إليها وفي مقدمها إسرائيل، ومن هنا تأتي مهمة جامعة الدول العربية التي لم تقدم رؤية إقليمية حتى الآن للتعاون الإقليمي في الحرب على الإرهاب، ونلاحظ أن الجهود العربية لمكافحة الإرهاب تظل مرتبطة بالدول التي تتعرض للعمليات الإرهابية.
ثانياً: المستوى الدولي للحرب على الإرهاب: يمكن أن يشكل مجموع استراتيجيات التكتلات الإقليمية استراتيجية عالمية تتصدى للأشكال المختلفة لظاهرة الإرهاب، وهذا لن يتحقق إلا إذا تراجعت الدول الراعية للإرهاب عن هذا الفعل من خلال كشفها أمام العالم، وهنا تلعب الأمم المتحدة -كمنظمة دولية- دوراً أساسياً في تفعيل استراتيجية المواجهة العالمية للإرهاب.
ونافلة القول يبقى التأكيد أن الإرهاب أيضاً ظاهرة فكرية تبدأ بتغيير الإطار المرجعي لمن ينتمي إليه وتزييف وعيه بأفكار رافضة ومتطرفة تجد مبتغاها في الأوساط المقهورة والمهمشة والتي تفتقد نسق الهوية والفكر الوسطي، بحيث تتسع الهوة بين الأجيال وتتعمق التناقضات الاجتماعية، وهكذا نصبح أمام مشروع عنصر إرهابي، وتبقى «مسؤولية التغيير» بأيدي مؤسسة الأسرة ودور العبادة والنظام التعليمي والإعلام بكل وسائله!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة