من أوكرانيا للشرق الأوسط.. أزمات العالم نعمة أم نقمة لقبرص؟
من أوكرانيا للشرق الأوسط، هكذا وجدت قبرص تلك الدولة الصغيرة نفسها وسط أزمات العالم.
فقبل عامين ونصف، صدمت العملية العسكرية الروسية التي انطلقت في فبراير/شباط 2022 أوروبا بأكملها، مما أغضب البلدان التي كانت عالقة ذات يوم في الفلك السوفياتي، وولد حالة من الإدراك لدى القوى الكبرى في أوروبا الغربية بأنها تفتقر إلى الاستعداد لمواجهة الحرب البرية التي اختارها الرئيس فلاديمير بوتين.
لكن في جزيرة صغيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط، أطلقت العملية العسكرية العنان لمجموعة أكثر تعقيدا من المشاعر والنتائج.
ويقول وزير خارجية قبرص كونستانتينوس كومبوس: «لقد عادت الذكريات»، في إشارة إلى تاريخ بلاده قبل خمسين عاماً عندما سيطرت تركيا على أراض قبرصية.
جاء التدخل التركي عام 1974 في أعقاب فترة من الاضطرابات السياسية والصراع الطائفي في المستعمرة البريطانية السابقة، مما دفع أنقرة إلى تبرير تحركها على أساس الدفاع عن القبارصة الأتراك، وقد انقسم ثلث الجزيرة المتوسطية -الجزء الأكبر من شمالها تقريبا- إلى جمهورية انفصالية لا تعترف بها سوى أنقرة وتحرسها عشرات الآلاف من القوات التركية.
توحيد الجزيرة
وتأمل حكومة كومبوس في إحياء العملية السياسية التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة توحيد الجزيرة، لكن الدبلوماسية تواجه عقبات كبيرة، مع إصرار أنقرة على الاعتراف بالكيان السياسي في الشمال كدولة مستقلة، وهو القرار الذي رفضته قبرص، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة والولايات المتحدة.
وقال رئيس شمال قبرص للصحفيين في وقت سابق من هذا الأسبوع: «لا جدوى من التفاوض مع طرف لا يقبل سيادتنا».
وربط كومبوس الاعتراف بالكيان الخاضع للنفوذ التركي بجهود الكرملين لتطبيع ضمه للمناطق الأوكرانية الواقعة تحت سيطرته.
إلا أن الموقف القبرصي من روسيا شهد تحولاً مذهلاً، فلسنوات كانت الجزيرة وجهة مفضلة للمصالح الروسية والأعمال التجارية وغيرها، بل إن بعض رجال الأعمال الروس دفعوا بثرواتهم إلى البنوك القبرصية وغيرها من المشاريع، إلا أنها الآن قطعت علاقاتها التجارية مع عشرات الآلاف من الروس وعلقت عددا لا يحصى من الحسابات المصرفية.
وضع صعب
واعترف كومبوس بأن عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا كانت صعبة بالنسبة لقبرص، إذ أدت إلى قطع تدفقات كبيرة من السياح الروس، فضلاً عن أنها شكلت قطيعة في تاريخ طويل من العلاقات مع موسكو.
وقال رئيس الدبلوماسية القبرصية: «إنها لحظة العودة إلى المستقبل»، في إشارة إلى عودة الاستقطاب في حقبة الحرب الباردة. لكنه قال إن التحالف القبرصي مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بشأن أوكرانيا «يضعنا بوضوح الآن على الجانب الصحيح من هذا الانقسام».
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، سيكون الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس من بين العديد من زعماء العالم الذين سيحضرون مؤتمر السلام الذي تقوده أوكرانيا في سويسرا، وهو ما سيمثل لحظة مفيدة لدول الاتحاد الأوروبي ونظرائها لبدء التفكير في كيفية انتهاء الحرب، بحسب كومبوس.
وبالقرب من الوطن، فإن التحدي شائك؛ فخريستودوليدس الذي وصل إلى السلطة العام الماضي من خلال حملة انتخابية تعهد فيها بإحداث زخم جديد للمفاوضات بشأن «مشكلة قبرص»، التي توقفت منذ عام 2017، يجد الأمور صعبة للمضي قدمًا، لكنه يأمل أن تسود الدبلوماسية الثابتة، وأن يساعد إغراء الحوافز السياسية من الاتحاد الأوروبي تركيا على الانفتاح الدبلوماسي.
صراع مجمد
وفي غياب التقدم، فإن «الصراع المجمد» الوحيد -على الرغم من أن كومبوس يرفض فكرة أنه «مجمد»، في إشارة إلى عمليات نشر القوات التركية- في الاتحاد الأوروبي قد يكون أكثر استعصاءً على الحل.
وفي الشمال، يقوم حاملو جوازات السفر الأجنبية من دول مثل إسرائيل وروسيا وإيران بشراء العقارات، بما في ذلك العقارات التي لا تزال مملوكة من الناحية الفنية للقبارصة اليونانيين النازحين منذ عام 1974.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أعلن في وقت سابق من هذا العام أن «آفاق التوصل إلى حل يمكن أن يقبله الجميع تتلاشى تدريجياً».
لكن كبير الدبلوماسيين القبرصيين يريد من المراقبين في بلاده أن يروا ما هو أبعد من وضعها المتضارب، ويشير إلى الاقتصاد الناشئ المزدهر والشراكات المتعددة الجنسيات عبر البحر الأبيض المتوسط، والموارد التي يمكن أن تعزز استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وسلط كومبوس الضوء أيضا على الدور المحوري الذي لعبته قبرص كمركز للمساعدات الإنسانية والعمليات اللوجستية خلال الحرب في غزة.
قبرص وغزة
وعلى الرغم من أن الرصيف البحري الذي بنته الولايات المتحدة في غزة واجه انتكاسات شديدة تتعلق بالطقس والأمن في تمكين إيصال المساعدات الإنسانية، فإن قبرص ساعدت في تسهيل نقل البضائع من شواطئها. علاوة على ذلك انضم كومبوس إلى جوقة المسؤولين الدوليين الذين يحثون إسرائيل على فتح الطريق البري للوصول إلى الأراضي المحاصرة.
وقال كومبوس: «لقد كنا ندعو إلى فتح المعابر البرية لأن هذه هي الطريقة الأكثر فاعلية للقيام بذلك، لكن في هذه الأثناء نعرض على المجتمع الدولي خيارا لم يكن متاحا له من قبل».
وأضاف أن الأزمة الحالية كانت بمثابة نعمة للعلاقات الأمريكية-القبرصية، «لأننا ربما للمرة الأولى أظهرنا أننا يمكن أن نكون مفيدين».
كومبوس، الذي يلتقي وزير الخارجية أنتوني بلينكن يوم الإثنين، قال إن قبرص تقع «بين الشرق الأوسط وأوروبا ولدينا ميزة تتمثل في القدرة على التحدث مع الجميع بطريقة صادقة وشفافة ويمكن التنبؤ بها»، وفي لحظة محفوفة بالمخاطر ومتقلبة، فإن هذا مهم.