"تراب الماس" يجمع بين معادلة التميز الفني والإعجاب الجماهيري
فيلم "تراب الماس" حصد المركز الثاني في إيرادات أسبوع العيد، وهو أمر قلما يحدث في مثل هذه المناسبات التي يفضل فيها المشاهد الضحك.
"العدالة المفرطة ليست بعدالة" هذه المقولة الشهيرة للكاتب المسرحي الفرنسي جون راسين، يمكن أن تكون هي المفتاح الأول لقراءة فيلم "تراب الماس" المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب والسيناريست المصري أحمد مراد.
نجح المخرج المصري مروان حامد في ثبر أغوار الرواية وتقديمها في عمل متقن من الناحية الفنية وربما الفكرية، حيث يصبح القتل هو الطريق الحتمي لفرض العدالة من وجهة نظر بطلي العمل المتورطين مثل كل أبطال الفيلم في هذه الجريمة، من وجهة نظر فلسفية ترى أن العنف هو وسيلة الحرب الوحيدة لتطهير المجتمع من الفاسدين والمرتشين وفاقدي الضمير والأخلاق عموما.
وبجانب هذا المفتاح يبعث كاتب الفيلم ومخرجه برسائل بعضها ديني كعشق والد البطل لتربية الغربان، مستشهدا بقصة قابيل وهابيل، ومعتبرا أنه من علم الإنسان كيف يواري سوءة أخيه بعد قتله، وباعتباره أيضا شاهدا على قصة الجريمة الأولى في فجر التاريخ.
هناك أيضا مفاتيح أخرى ككتاب الموتى وقصة "أوزوريس" عند الفراعنة، لذلك تبدو المقابر في الفيلم موقعا مناسبا لتصوير مشاهد مهمة يدور خلالها الحديث الفلسفي حول العدالة والقصاص في خلطة أخرى لا يخطؤها المتابع ليدرك الخلفية الثقافية للكاتب، والتي يختلط فيها الدين بالتاريخ، والفلسفة بالقانون، وعلم الاجتماع بالسياسة، بينما يكرر حوار الفيلم جملة تقول "إن الأخطاء الصغيرة يمكن أن ينتج عنها كوارث كبيرة".
وللمرة الثانية بعد مسلسل "فيرتيجو" يتخذ الكاتب من الجريمة خلفية تكشف بأسلوب مشوق عن كواليس المجتمع والفساد المستشري وسط كل طبقاته، مثلما هي المرة الثانية التي يتحمس المخرج مروان حامد لتقديم فيلم عن رواية لأحمد مراد بعد رواية "الفيل الأزرق"، حيث تعلو مساحة المشاهدة السينمائية في البداية وتزداد نبرة الغموض والميتافيزيقا، في حين تتزايد مساحة الفلسفة في "تراب الماس" دون أن يفقد المخرج قدرته على تعميق مساحة الغموض.
الضحية والجلاد
يفتتح الفيلم بمنزل شخص مقعد على كرسي متحرك يعيش مع ابنه طه، تسليته الوحيدة تكمن كما يقول في أحد حواراته مع ابنه الوحيد "مشاهدة بلد بتسرق بالراحة"، ومن خلف تلسكوب صغير أمام شباك يطل على العالم يمارس من خلاله التلصص وتدوين المذكرات ومحاسبة المذنبين بلا رحمة ليصبح هو الضحية والجلاد في آن واحد، مقتنعا بمفهوم العدالة العمياء ومنفذا لها بيده في بلد لا يحاكم فيه القانون "المسنودين" كما يقول الحوار أيضا.
في إحدى الأمسيات يقتل الرجل القعيد ليرث ابنه حكاياته وثأره وأفكاره عبر المذكرات التي تكشف عن عالم ضخم مبني من الزيف والفساد، وسطوة السلطة التي تمتد لأجيال في تتابع مثير منذ الخمسينيات وحتى اللحظات الراهنة، ونرى رجل الأمن الفاسد وليد سلطان (ماجد الكدواني)، والبرلماني محروس برجاس (عزت العلايلي) ترزي القوانين، و(محمد ممدوح) البلطجي المأجور الذي يشبهه رجل الأمن ببالوعة المجاري التي تستخدم لإنجاز المهام القذرة لكنها لا بد في النهاية أن تصيبك بالقرف.
أرض الخوف
هناك شخصيات أخرى مثل سمسار الإعلام المناضل الذي يتبين أنه دجال يتاجر بالأفكار ويمارس أبشع أنواع الرذيلة في الباطن، وإحدى ضحاياه التي تتورط مثل كل أبطال الفيلم في النهاية بقتله في "تراب الماس"، والعمة "صابرين" والمنحرفة "شيرين رضا" كلها شخصيات رغم ثانويتها، إلا أنها تكرس لاستكمال الصورة التي يسعى الفيلم لتأكيدها حول عالم مأزوم يعيش في أجواء تذكرنا بفيلم "أرض الخوف" لداوود عبدالسيد، حيث تضل فيه الرسائل الإنسانية طريقها وتنقلب المعايير وينحرف الجميع عن رسائلهم الحقيقية، ويصبح القتل هو سيد الموقف، لينتهي الفيلم بما يشبه التأكيد على رسالته المستحيلة، حيث إن "السكوت جريمة ولازم الناس اللي تحت تراقب الناس اللي فوق".
إذا كانت حبكة سيناريو الفيلم خانها التوفيق في لحظات، حيث التداخل الذي يشبه "الفلاش باك" المتكرر كثيرا، لكنه نجح في التشويق وعدم كشف الأسرار دفعة واحدة، وتلك إحدى مهارات البناء، وهو الأسلوب الذي نجح في توصيله المخرج مروان حامد، إضافة لاعتماده الحركة المستمرة للكاميرا التي يصاحبها التوتر، واستخدام العديد من اللقطات من أماكن مرتفعة لتستعرض لنا القاهرة المزدحمة والغائمة في لوحة تجريدية تتسم بالغموض والتوتر.
لغة بصرية مدهشة
الإضاءة أيضا مع قطع الديكور والأماكن التي كان لها بريق في مصر القديمة ولا تزال تحتفظ بمسحة فنية وتجريدية تظهر في لوحات هذا الفيلم مثل حديقة الأندلس بقصر النيل، والفسيفساء في مباني وسط القاهرة، وكما أظهرها المخرج من قبل في "عمارة يعقوبيان" وكأنه مغرم بها لكنها موظفة تماما داخل الحالة الدرامية.
كل ذلك منح الفيلم مذاقا ولغة بصرية مدهشة، تختلط فيها مشاعر الأرستقراطية بالغموض والأسطورية، ورائحة الموت بعطر الحياة، وهزيمة 1967 بحارة اليهود والخيانة العاطفية بالفاشية السياسية، ولعنة القطة التي كانت أول من قتل "بتراب الماس".
بناء الشخصيات
بناء شخصية "طه" الصيدلي وعازف الدرامز بملابسه البسيطة المترددة بين الصبيانية والشباب، وحياته الباهتة الرتيبة مع أبيه القعيد قبل أن تقع جريمة قتله، ثم تحوله بعد اكتشاف فحوى مذكرات أبيه ورحلته مع رجل الأمن والفتاة الوحيدة التي مال قلبه لها، بدت مثل الصندوق الأسود المغلق، الذي يفرج عن معلوماته وأسراره بالتدريج والتنوير، شخصية رسمت ببراعة وأداها آسر ياسين بشكل واع بنفس البساطة والتعقيد الكامن في ملامحها الخارجية وأيضا الداخلية.
منة شلبي أقل براعة في رسم شخصيتها، فهي بلا خلفية تبرر دوافعها في السقوط مع الإعلامي سوى الحب، دون أي ذكر لظروفها السابقة وخلفيتها كمناضلة كما في الرواية، ورغم ذلك فقد اجتهدت كعادتها في التعبير عن مرحلة الانكسار والصدمة حتى الأخذ بالثأر.
ماجد الكدواني أدى شخصية الضابط ببراعة وتمكن، وكشف عن البعد النفسي المركب بسلاسة واضحة، وإياد نصار الإعلامي المخادع مفاجأة بأدائه الهادئ الطيب الذي يخفي وراءه شخصية كارثية، ورغم صغر مساحة شيرين رضا وعزت العلايلي وبيومي فؤاد وصابرين ومحمد ممدوح، لكن كل منهم قدم دوره بشكل جيد.
ويبقى فيلم "تراب الماس" باعتباره واحدا من أهم الأعمال الفنية والأدبية التي ظهرت مؤخرا ونجحت في الجمع بين التميز الفني والإعجاب الجماهيري، بدليل أن الفيلم حصد المركز الثاني في إيرادات أسبوع العيد، وهو أمر لا يحدث كثيرا في مثل هذه المناسبات التي يجوبها المراهقون والباحثون عن الضحك بعيدا عن القتل والغموض، لكن "تراب الماس" نجح في تحقيق هذه المعادلة.