ظاهرة بارديلا.. هل يقلب «نجم اليمين المتطرف» السياسة الفرنسية؟
في السياسة الفرنسية، قاعدة لا تخطئ: السياسيون يفقدون البريق بمرور الوقت، لكنها وجدت الاستثناء في نجم اليمين المتطرف غوردان بارديلا.
يُعرف عن الفرنسيين أنهم يمقتون سُياسييهم مع الوقت، بينما يستمتع المبتدئون في عالم السياسة بـ"حلاوة البدايات"، قبل أن تذبل الصورة البراقة في أعين الجمهور.
وعلى سبيل المثال، يظهر استطلاع لصحيفة "بوليتيكو" الأمريكية، أن الحكومة الفرنسية الحالية تحظى بثقة ربع الفرنسيين فقط في الوقت الحالي.
لكن لكل قاعدة استثناء، إذ صمد غوردان بارديلا، رئيس التجمع الوطني اليميني المتطرف، في وجه "فقدان البريق" لما يقرب من عقد من الزمان، باعتباره أبرز أعضاء حزبه في البرلمان الأوروبي منذ ٢٠١٩.
وباعتباره المرشح الرئيسي لحزبه لانتخابات البرلمان الأوروبي المقررة الأسبوع المقبل، يهيمن الشاب البالغ من العمر 28 عامًا على منافسيه في استطلاعات الرأي.
إذ أظهرت استطلاعات الرأي، التي أجرتها بوليتيكو، أن ما يقرب من ثلث الناخبين الفرنسيين يخططون للإدلاء بأصواتهم للتجمع الوطني.
ويمنح ذلك الحزب، الذي كان يُعامل ذات يوم على أنه خطر على البلاد، ضعف الدعم الشعبي الذي يتمتع به أقرب خصومه، حزب النهضة الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
بارديلا يسير بخطوات مدروسة، ويعرف جيدا من يريد اجتذابه من الناخبين وكيف، ويلعب على أوتار العصر والأجيال الجديدة، بل إنه أصبح أحدث صيحات برنامج التواصل "تيك توك".
كما يستخدم الكاريزما وابتسامة "تدرب عليها كثيرا"، بعناية للحصول على أصوات الشباب.
هذه الخطة الدعائية انعكست على شعبيته بشكل ملحوظ، فعندما قامت صحيفة "JDD" الأسبوعية الفرنسية بتجميع قائمة بأكثر 50 شخصية شعبية في فرنسا، كان بارديلا السياسي الوحيد الذي وُضع في القائمة.
أوروبا اليمينية؟
وتمثل شعبية بارديلا، والصعود المتزامن لليمين المتطرف في مختلف أنحاء القارة الأوروبية، تغيراً هائلاً محتملاً في السياسة الأوروبية.
ووفقا لـ"بوليتيكو"، قال أحد الشخصيات ذات الوزن الثقيل من مجموعة التجديد (تجديد أوروبا) التي يتزعمها ماكرون في البرلمان الأوروبي: "ليس هناك شيء مقدر، لكن هناك سيناريو حيث سنواجه لحظة ما بعد الصدمة في أوروبا بعد الانتخابات".
وفي غضون ذلك، تضم ست حكومات من حكومات الاتحاد الأوروبي الـ27، بما في ذلك الحكومة الإيطالية، أحزاباً كانت تعتبر ذات يوم يمينية متطرفة، ومن المقرر أن تنضم هولندا إلى صفوفهم.
وفي فرنسا، على الرغم من أن الأداء القوي في انتخابات العام الماضي، لم يصل التجمع الوطني إلى الإليزيه، إلا أنه يُنظر إلى التصويت على نطاق واسع على أنه مقياس قبل انتخابات عام 2027.
حينها يُتوقع أن يقوم الحزب، الذي ترأسته لسنوات طويلة، مارين لوبان، بجولة انتخابية أخرى "قوية" في الاقتراع الرئاسي.
لكن يعتقد المراقبون السياسيون أن معارضة الفرنسيين لوصول اليمين المتطرف للسلطة، لم يعد أمرا مؤكدا، وإذا اكتسح حزب التجمع الوطني السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فسيكون ذلك بفضل الجهود المبذولة لإعادة وضع نفسه كبديل آمن ومستساغ لأحزاب السلطة التقليدية، وهو جهد يجسده بارديلا.
ظاهرة بارديلا
نجح المرشح اليميني المتطرف، غوردان بارديلا، في بناء قاعدة جماهيرية يمينية متطرفة تستقبله بزخم في محطات الحملة الانتخابية ويتابعون خطبه ونكاته في الوقت المناسب وبرامجه الحوارية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتنشر الصحف الفرنسية قصصا عنه بعناوين مثل "نجم بارديلا"، و"تحول اليمين المتطرف"، و"الشعبوية الفائقة اللمعان"، و"فخ بارديلا".
وعلى الرغم من انتقاده في وسائل الإعلام والمعارضين السياسيين لعدم فهمه للقضايا بشكل جيد، فإنه عمل بشكل ثابت على توسيع الفجوة بينه وبين فاليري هاير، مرشحة ماكرون في السباق الانتخابي الأوروبي.
ويستفيد بارديلا من طريقته في حشد الأصوات السياسية، التي تشمل جولات موسيقية، مع منشورات لا نهاية لها على "تيك توك" وصور سيلفي مع المعجبين.
وفي السياق، قال مستشار سياسي من حزب الجمهوريين المحافظ المنافس، لم تذكر بوليتيكو هويته: "نشهد ظاهرة بارديلا".
وأضاف: "يريد الناس أن يروا ماكرون يتلقى الضربة، وبطريقة مربكة، يتمكن (بارديلا) من الظهور كاقتراح سياسي جديد لليمين واليمين المتطرف".
وبالإضافة إلى نجاحه مع الشباب -إذ بدأ حملته الانتخابية في ملهى ليلي مع المشروبات والأغاني- حقق بارديلا أيضًا نجاحات مع كبار السن، وهم فئة ديموغرافية كارهة للتغيير عانى منها حزبه تقليديًا.
وبحسب استطلاع للرأي نُشر في أبريل/نيسان، فإن 23% من الناخبين الذين تزيد أعمارهم على 65 عامًا يعتزمون التصويت لبارديلا، ارتفاعًا من 19% في عام 2019.
وحتى معارضو بارديلا يحترمونه على مضض، إذ قال أحد الشخصيات البارزة من حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون، دون أن تكشف بوليتيكو عن هويته: "أنا أعرفه جيداً، إنه ليس بعبعاً".
لوبان وصفت بارديلا بأنه "هبة من السماء" لجهودها في إزالة "السموم من سمعة الحزب" وإعداده للسلطة، وأضافت أنه "جزء من جيل جديد".
وتقول إحدى معارف بارديلا "كان بالفعل سياسيا مكتملا في الـ22 من عمره"، مضيفا "لا أعتقد أنني رأيته من قبل وهو لا يرتدي بدلة. لم نصبح أصدقاء قط، لكنه كان جيدًا في إجراء المحادثات، والانخراط في الأحاديث دون الكشف عن الكثير عن نفسه".
لكن حضور بارديلا ليس من قبيل الصدفة، هكذا قال باسكال هيومو، متخصص الاتصالات السابق في حزب التجمع الوطني الذي اختلف منذ ذلك الحين مع الحزب.
وتحدث هيومو، في مقابلة مع الفيلم الوثائقي Complément d'enquête، عن أن المرشح اليميني المتطرف خضع لتدريب إعلامي مكثف، مضيفا: "لقد كان قوقعة فارغة من حيث عمق الشخصية، كان محدودًا جدًا"، على حد تعبيره.
وأوضح هيومو أن "سهولته وحماسه، التي يمكنك الشعور بهما اليوم، كان علينا أن نعمل على زرعها فيه لأشهر وأشهر"، وأضاف أنه حتى ابتسامة بارديلا وتحياته كانت نتاج تدريب مضن.
صعود السياسي الشاب
وُلد بارديلا لعائلة من الطبقة العاملة من أصول إيطالية أتت إلى فرنسا في ستينيات القرن الماضي، ونشأت في مساكن عامة في منطقة غابرييل بيري في سان دوني.
غابرييل بيري كانت ضاحية فقيرة شمال باريس تتصدر عناوين الأخبار بانتظام باعتبارها منطقة فقيرة ومضطربة (كمركز لتهريب المخدرات وجرائم العنف).
وانضم بارديلا إلى حزب التجمع الوطني عندما كان مراهقًا، وترك الجامعة ليتجه إلى السياسة.
والدته كانت مساعدة في حضانة من تورينو، وكان والده، وهو ابن مهاجر إيطالي، يمتلك شركة لبيع المشروبات.
وعندما يتعلق الأمر بالسياسة، يغني بارديلا نشيد التجمع الوطني، منتقدا الجرائم المرتبطة بالمخدرات و"الإسلاموية المتفشية" في الضواحي الفرنسية.
وبذلك يبرز خلفيته الصعبة باعتبارها تتناقض بشكل حاد مع العديد من النخبة السياسية في باريس.
ومع ذلك، شكك النقاد في الخلفية الدرامية "المثالية" لبارديلا في السنوات الأخيرة، مشيرين إلى أن والده كان ميسور الحال نسبيًا، وكان قادرًا على تقديم التعليم له في مدرسة خاصة جيدة وقضاء عطلات في الخارج.
واتُهم بارديلا، في يناير/كانون الثاني، بنشر تعليقات عنصرية سرا على وسائل التواصل الاجتماعي عندما كان عضوا في المجلس الإقليمي في عام 2016، لكن نفى بارديلا هذه الاتهامات.
وفي منطقة صعوده، تُعد سان دوني موطنًا لجاليات فقيرة ومهاجرة ومسلمة إلى حد كبير؛ فقد صوت أكثر من 80% من الناخبين فيها لصالح ماكرون وضد لوبان في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ومع ذلك، لا يختلف جميع سكان سان دوني مع جميع مواقف بارديلا.
على سبيل المثال، قال محمد عمروس، بائع أحذية في السوق المحلية: "ما يقوله صحيح.. الجميع يفكر بنفس الطريقة هنا. أنا ابن الأمة الفرنسية، والوضع يزداد سوءًا. هناك المزيد والمزيد من الانحراف وانعدام الأمن والفظاظة".
وأضاف عمروس أنه لن يصوت أبدا لحزب التجمع الوطني، لكنه اتفق مع بارديلا على ضرورة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين المدانين بارتكاب جرائم.
ماكرون أسس صعوده
فرنسا ليست غريبة على النجوم الصاعدين الذين يستهدفون المؤسسة السياسية، إذ لم يمض وقت طويل منذ أن انتخبوا أحد هؤلاء المرشحين الذين يستهدفون التخلص منه حاليا وأزاحته من رئاسة البلاد.
ففي عام 2017، نسف ماكرون المشهد السياسي في فرنسا، فدمر الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد في طريقه إلى أعلى منصب في فرنسا.
وبحلول الوقت الذي أدى فيه ماكرون اليمين الدستورية، لم يتبق سوى قوتين رئيسيتين؛ هو ولوبان، مما مهد الطريق للتحدي الذي يقدمه بارديلا اليوم.
إلى ذلك، قال أحد كبار الاشتراكيين السابقين: "يرى الوسطيون أن حزب التجمع الوطني هو خصمهم الوحيد. إنه يخلق مشهدا سياسيا ثنائي القطب، ونعم يجعل البديل ممكنا".
وعلى أرض الحقائق الملموسة، عززت مناظرة، جرت الأسبوع الماضي بين بارديلا ورئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال البالغ من العمر 35 عاما، هذا الانطباع.
وتصارع الوريثان المحتملان لماكرون مع رؤيتهما المتنافسة لأوروبا، في ظهور تلفزيوني شاهده 3.6 مليون مشاهد.
نقطة ضعف
بالنسبة للتصويت المقبل، نجح حزب التجمع الوطني في تصوير الانتخابات باعتبارها استفتاء منتصف المدة على ماكرون، وليس على التهديدات الجيوسياسية التي تواجه أوروبا.
وقال برونو جنبارت، خبير استطلاعات الرأي، إن الانتخابات الأوروبية أصبحت "لحظة صمام ضغط".
وأضاف أنها "انتخابات صعبة بالنسبة لحزب حاكم، حيث يعبر الناس بشكل عام عن غضبهم أو خيبة أملهم".
وفي مواجهة الهزيمة المؤكدة، يعمل حلفاء ماكرون بالفعل على التقليل من تأثيرها المحتمل، ويقولون أن بارديلا يحظى بشعبية لكنه موضة عابرة.
وظهرت نقاط ضعف بارديلا في مناظرته مع أتال. فعلى الرغم من أنه عضو في البرلمان الأوروبي منذ عام 2019، إلا أنه نادرًا ما شارك في أنشطة المجلس، حيث قدم 21 تعديلًا فقط خلال فترة ولايته وتخطى المناقشات في الغالب.
وفي حين لم يكن أداءه سيئًا ضد أتال، كما فعلت لوبان ضد ماكرون في مناظرة رئاسية محرجة في عام 2017، إلا أن بارديلا بدا متصلبًا وغير مرتاح، خاصة عندما اضطر إلى التعامل مع الجوهر أو الخروج عن ردوده المكتوبة.
وقال فرانسوا كزافييه بيلامي، المرشح الرئيسي عن حزب الجمهوريين المحافظ، إنه "يجتذب أكبر عدد ممكن من الناخبين من خلال عدم اتخاذ موقف واضح بشأن أي شيء، لكن في مرحلة ما، سيتعين عليه التوقف عن الغموض".
حتى حلفاء بارديلا السابقين يصفونه بأنه سطحي، إذ قال فلوريان فيليبو، اليد اليمنى السابقة للوبان، والذي ترك الحزب بعد هزيمة الحزب في الانتخابات الرئاسية عام 2017: "سرعان ما رأيت أن قناعاته كانت مرنة للغاية".
وحتى الآن، لا يبدو أن الناخبين يهتمون. وأظهر استطلاع للرأي، أجري بعد وقت قصير من المناظرة مع أتال، أن الدعم لبارديلا لم يتضاءل، بل وصل إلى مستوى قياسي بلغ 34%.
معركة البقاء
كما قد تكون أكبر نقاط ضعف بارديلا هي التكهنات المتزايدة بأنه في طريق تصادمي مع لوبان، في حزب معروف بمعاركه شبه الهوميرية على الزعامة (وهو ما يمكن أن يشهد عليه فيليبو).
ووجد استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة OpinionWay ونشر هذا الشهر، أن الناخبين يقفون خلف بارديلا: 52% من ناخبي التجمع الوطني سيصوتون لبارديلا، مقارنة بـ 43% للوبان.
وبينما كان الاثنان يبذلان قصارى جهدهما لتقديم نفسيهما كلاعبين من أجل الفريق: حزب التجمع الوطني، إلا أن هذا التوازن لا يعتقد الكثيرون أن يستمر.
وفي هذا السياق، أشار عضو سابق في حزب التجمع الوطني إلى أنه "لم يكن هناك قط رقم 2 في التجمع الوطني. إما أن تصبح رقم 1 أو يتم قتلك".
على سبيل المثال، تغلب جان ماري لوبان، مؤسس الحزب ورئيسه لسنوات طويلة، على اثنين من منافسيه قبل أن تُهمشه ابنته.
ونظرًا لجاذبيته الأوسع ومواقفه المؤيدة لقطاع الأعمال، يعتقد البعض في الحزب أنه يمكن أن يكون هو الشخص الذي سيقود الحزب إلى ما هو أبعد من ذلك في عام 2027، خاصة إذا تم الحكم على لوبان بأنها غير مؤهلة لتولي المنصب في غضون محاكمة معلقة بتهمة الاختلاس.
ولكن هناك المزيد ممن يعتقدون أنه من المرجح أن يكون الطرف الخاسر في أي معركة مع المرأة التي صنعت ثروته السياسية والتي تستمر في إحكام قبضتها على الحزب بقبضة من حديد.
وقال أحد حلفاء لوبان: "إذا أشعل فتيلاً، فسوف يتبعه خمسة أشخاص"، في إشارة لتضاؤل الدعم، وأضاف: "حتى مدير حملته لن يتبعه، ولن يُقبل أبدًا أي شخص خان لوبان".