قراءة في نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية لعام 2019
بالرغم من حدة الاستقطاب في الانتخابات الأوروبية، والمخاوف التي ارتبطت بها، فإن النتائج التي أفضت إليها تبدو مطمئنة.
تميزت الانتخابات البرلمانية الأوروبية لعام 2019، بارتفاع معدلات المشاركة لتصل إلى ما يفوق 50% مما يعني أن مواطنا أوروبيا من كل اثنين ذهب للمشاركة، ذلك لأن هذه الانتخابات ارتبطت برهانات أوروبية كبرى، إما بقاء واستمرار البناء الأوروبي وهو ما يريده يمين الوسط واليسار، أو تقليص قوة الدفع وإبطاء الإصلاح أو تفكيك هذا البناء وهو ما يريده اليمين الشعبوي، الصراع والاستقطاب بين هذين التيارين في الساحة الأوروبية هما حجر الزاوية في هذه الانتخابات.
وبالرغم من حدة الاستقطاب والصراع في الانتخابات الأوروبية، والمخاوف التي ارتبطت بها، فإن النتائج التي أفضت إليها تبدو مطمئنة حول مصير البناء الأوروبي ومستقبل الاندماج الأوروبي والتكامل، دون أن يعني ذلك أنها تخلو من السلبيات والقلق.
احتواء الموجة اليمينية الشعبوية
اليمين المتطرف والشعبوي يبدي تشككا وتحفظا إزاء المسار الأوروبي، ويطمح إلى استعادة بعض السلطات والصلاحيات من البرلمان الأوروبي؛ لصالح الدولة والسيادة الوطنية وتهميش النخبة البيروقراطية الأوروبية المتمركزة في بروكسل وستراسبورج، وهي المخاوف التي يواجهها أنصار البناء الأوروبي من يمين الوسط والاشتراكيين الديموقراطيين والليبراليين، وقد كشفت نتائج الانتخابات عن تحقيق اليمين المتطرف والشعبوي اختراقات مهمة في فرنسا وإيطاليا والمجر وغيرها، حيث حصل التجمع الوطني الفرنسي بزعامة "لوبن" على المرتبة الأولى في هذه الانتخابات بنسبة 23.31% من الأصوات، في حين حصلت حركة الجمهورية إلى الأمام بزعامة ماكرون على 22.7% من الأصوات.
وكذلك في إيطاليا حيث فازت حركة "الرابطة" وحركة "النجوم الخمس" بعدد كبير من المقاعد الأوروبية، وكذلك حصل حزب "فيكتور أوربان" المجري على نسبة عالية من أصوات الناخبين، حصل ائتلاف "أوروبا الأمم والحرية" الذي يضم "لوبن" و"ماتيو سالفينى" نائب رئيس الوزراء الإيطالي على 55 مقعداً بدلا من 37 مقعدا في الانتخابات السابقة.
كما زادت مقاعد "أوروبا من أجل الحرية والديموقراطية المباشرة" الذي يضم الشريك الحكومي لسالفينى حركة "النجوم الخمس" وحزب البريكسيت البريطانى من 42 إلى 53 مقعداً، وهكذا فإن أحزاب اليمين المتطرف حصلت في أوروبا على ما يقرب من 115 مقعداً وفق آخر التقديرات في البلدان الأوروبية المختلفة.
ومع ذلك فإن هذه النتيجة رغم أنها قد تعرقل وتعقد عمل الهيئات التنفيذية للاتحاد كالبرلمان وغيره، فإنها حتى الآن في حدود معدل الأمان، حيث لم تتحصل هذه الأحزاب على الأغلبية المطلقة الضرورية، لسن القوانين والتشريعات؛ كما أن فوز يمين الوسط الممثل بحزب الشعب الأوروبي بـ 182 مقعدا بدلا من 216 مقعدا في الانتخابات السابقة، يؤهله مع يسار الوسط الممثل بالاشتراكيين الديموقراطيين الفائز بـ152 مقعدا بدلا من 185 مقعدا في عام 2014؛ لتشكيل نواة صلبة للأغلبية بالتحالف مع الخضر والليبراليين رغم تراجع عدد المقاعد مقارنة بـ2014.
في جميع الحالات فإن يمين الوسط واليسار الاشتراكي الديموقراطي والخضر والليبراليين عموما قد تمكنوا من تحجيم خطر اليمين المتطرف، والشعبوي، وحالوا دون سيطرته على الأغلبية الضرورية، لسن التشريعات، وهذا لا ينفي تأثير هذه الكتلة أي اليمين المتطرف والشعبوي، على أداء مؤسسات الاتحاد الأوروبي وإقرار الميزانية.
صعود مفاجئ للخضر
أما الدلالة المهمة الثانية لهذه الانتخابات فتتمثل في الصعود المفاجئ للأحزاب الخضراء في المشهد السياسي الأوروبي، خاصة في كل من ألمانيا وفرنسا، ففي ألمانيا جاء الحزب في المرتبة الثانية مباشرة خلف معسكر أنجيلا ميركل وتضاعف تمثيلهم مقارنة بـ2014.
بينما في فرنسا حل الخضر في المرتبة الثالثة بعد حزب التجمع الوطني بزعامة "لوبن" و"الجمهورية إلى الأمام" بزعامة "ماكرون"، حيث حصل هذا الحزب على 12.7% من الأصوات ويشير تقدم أحزاب الخضر في هذين البلدين الكبيرين ألمانيا وفرنسا إلى الأهمية التي يوليها الناخبون إلى الخيار البيئي وتحولات المناخ وأهمية الترتيبات والسياسات التي تهدف إلى الحد من التلوث في المناخ، وتقليل انبعاث الكربون وعوادم السيارات، وهي السياسات التي يوليها العديد من قادة أوروبا أهمية فائقة رغم أعبائها التي رفضها قطاع كبير من الفرنسيين في مظاهرات السترات الصفراء، ووفق آخر التقديرات فإن الخضر قد حصلوا على 70 مقعدا في البرلمان الأوروبي.
تصويت عقابي
أما ثالث هذه الدلالات للانتخابات الأوروبية، فتتمثل في أن الأوروبيين يريدون من خلال تزكية نواب اليمين المتطرف والشعبوي توجيه رسالة إلى المسؤولين والقادة الحاليين، بضرورة كبح جماح السياسات النيوليبرالية والحفاظ على المكاسب الاجتماعية والضمان الاجتماعي والتقاعد، التي حافظ عليها الساسة الأوروبيون من مختلف المعسكرات، والالتفات أكثر إلى مطالب الفئات الشعبية والوسطى إزاء انخفاض القوى الشرائية وزيادة الأعباء الضريبية.
وربما يصدق ذلك أكثر في الحالة الفرنسية التي أثرت بشكل كبير في نتيجة هذه الانتخابات البرلمانية، أي احتجاجات السترات الصفراء التي استمرت زهاء ستة أشهر، ووصل صوتها إلى الأوساط الحكومية بجهد كبير، واستثمر ذلك اليمين القومي المتطرف بزعامة السيدة "لوبن" في الحملة الانتخابية، للبرلمان الأوروبي.
ويمكن تلخيص المعادلة التي ساهمت في توجيه الناخبين إزاء هذه الانتخابات في تأييد اليمين المتطرف والشعبوي دون تمكينه من الحصول على الأغلبية المطلقة التي تؤهله لتحديد مسار البناء الأوروبي، وعرقلته وحث الطبقة السياسية الأوروبية على استدراك المخاطر، وتصحيح مسار البناء الأوروبي وضمان مشاركة أوسع للمواطنين تكفل سماع صوتهم، وأخذ مطالبهم بين الاعتبار، ووضع حد للحواجز البيروقراطية التي تحول دون التعرف على مطالب الأوروبيين في أعماق أوروبا على اتساعها، ويمكن وصف هذا التصويت بأنه "عقابي" للحول دون استمرار السياسات على النحو السابق.
ومع ذلك فإن حصول اليمين القومي المتطرف والشعبوي على 115 مقعدا لا يعني أن هذه المقاعد مضمونة، إذ يحتسب فيها 29 مقعدا لنواب المملكة المتحدة البريطانية والذين يرتهن وجودهم بالخروج من الاتحاد الأوروبي المقدر له أن يتم في الخريف المقبل إثر تنفيذ اتفاق الخروج المعقود مع الاتحاد، أو إقرار اتفاق جديد، أو الخروج دون اتفاق، من ناحية أخرى فإن ارتفاع عدد مقاعد هذا التيار لم يواكبه ارتفاع مماثل في كل القارة الأوروبية في عدد الأصوات.
أغلب الظن أن المشهد السياسي الأوروبي سيدخل في إطار جديد ومتغير بعد نتائج هذه الانتخابات، أول المعطيات الجديدة في المشهد هو بلا شك صعود اليمين الشعبوي والمتشكك في أوروبا الموحدة والتكامل الأوروبي، ليشغل مكانة القوة الثالثة على الصعيد الأوروبي بعد حزب الشعب الأوروبي والاشتراكيين الديموقراطيين أي اليمين واليسار الأوروبيين، وذلك التحدي الجديد ذو طبيعة مزدوجة تفرض نفسها على الجانبين.
أولا على صعيد اليمين المتطرف والمتشكك في أوروبا والذي عليه أن يتعامل مع المؤيدين للبناء الأوروبي، كما أن هؤلاء الأخيرين عليهم التواصل مع المتشككين في البناء الأوروبي والذين قد يستخدمونه كأداة لتفكيكه أو تقليص صلاحياته، هذا التعايش الإجباري سيكون له مردوده على الأداء الأوروبي عامة من زاوية تعطيله أو فرملته وإبطائه وهو ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
ثانياً فإن تراجع عدد مقاعد حزب الشعب الأوروبي والاشتراكيين الديموقراطيين مقارنة بعدد مقاعدهم في عام 2014، سيمنح الليبراليين والخضر فرصة تاريخية ليصبحوا رمانة الميزان وحجر الزاوية، في تشكيل الأغلبية في البرلمان الأوروبي، أغلبية مؤيدة للبناء الأوروبي ومتفقة حول ضرورته رغم تنوع الرؤى واختلاف الأولويات حول التحولات المناخية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية وفي كل الأحوال فإن صفحة جديدة في المسار الأوروبي قد افتتحت مع نتائج هذه الانتخابات.
aXA6IDE4LjExNy4xNzIuMTg5IA== جزيرة ام اند امز