الاتفاق الفرنسي الألماني.. ومعادلة الغربين "الأوسط" و"الأقصى"
المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي تتسم بالسيولة، وأحيانا تتخللها حالة من الانفلات والفوضى، واتساع مساحة عدم اليقين.
هل يمر النظام الدولي الراهن بمرحلة انتقالية؟.. وإن كان الأمر كذلك، هل نشهد في المستقبل القريب تغيرا جوهريا في مضمون وملامح خريطة توزيع القوى الدولية الكبرى في شكل يختلف عن هذا الذي تعوَّد عليه العالم طيلة عقود؟.. ثم بناءً على ذلك، هل لنا أن نتوقع توالد مصطلحات من قبيل الغرب "الأوسط" (دول أوروبا الغربية)، والغرب "الأقصى" (أمريكا وبريطانيا)، كتعبير عن التمايز الغربي في السياسات الاقتصادية، والرؤى الاستراتيجية عموما؟.
مثل هذا التساؤل، يطرح نفسه بإلحاح في إطار الاختلاف الواضح بين القوى الدولية الكبرى، والقوى الدولية الغربية بوجه خاص، إذ بالنسبة لهذه الأخيرة يبدو أن ثمة اتجاهين يتنافسان بل يتصارعان:
أحدهما، هو التوجه المعبر عن الانعزالية الأمريكية، أو ما يمكن أن نطلق عليه "حمائية ترامب"، الذي يأتي على خلفية شعار "أمريكا أولا" الذي يستهدف حماية التجارة الأمريكية، في إطار المصالح الاستراتيجية لأمريكا، وهنا وعلى عكس ما يراه البعض نود التأكيد على أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ليس مجرد ظاهرة أو محض حالة انفعالية بل هو يُمثل رؤية سياسية متكاملة، رؤية "يمينية" تستند فلسفتها بشكل عميق إلى جذور في الثقافة الأمريكية.
الآخر، هو التوجه الذي تقوده ألمانيا ومعها فرنسا الذي تعبر عنه بقوة الاختلافات الحادة بينهما من جانب وأمريكا من جانب آخر، حول العديد من القضايا الدولية، مثل قضايا التغير المناخي والتجارة الحرة.. وغيرها، أضف إلى ذلك المعاهدة الجديدة التي تم التوقيع عليها من جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (22 يناير الماضي)؛ تلك التي تأتي كاستجابة فرنسية ألمانية للتحدي الكبير الذي يمثله ترامب الذي أحرج البلدين إلى حد الإهانة ومعهما الاتحاد الأوروبي بخصوص الحصص المالية لـ"ناتو".
فهل يؤدي مثل هذا الاتفاق في الرؤى في إطار المعاهدة الجديدة واحتمال تفعيلها على أرض الواقع الأوروبي إلى تحويل أوروبا بقيادة ألمانية فرنسية إلى قطب دولي منافس للولايات المتحدة، ونصبح بالتالي أمام معادلة جديدة مفادها التنافس بين الغربين الأقصى (أمريكا)، والأوسط (أوروبا)؟
الأبعاد الاستراتيجية
يبدو أن هذه المعادلة في سبيلها إلى أن تتحقق ملامحها في المستقبل المنظور، إذا لاحظنا أن الاتفاق الفرنسي الألماني ليس مجرد سعي نحو إنشاء جيش موحد، بل إنه اتفاق يتضمن ـ في حقيقته ـ تعميق الشراكة والتحالف بين البلدين في مجالات متعددة، من بينها الدفاع عن أراضي البلدين ووصفها بأنها مسؤولية مشتركة، ومنها السعي لتطابق السياسات الخارجية والدفاعية والتعاون في برامج عسكرية كبرى، ولعل الأهم هو ما تضمنه الاتفاق من تأسيس "مجلس أمني مشترك"، هذا فضلا عن التأكيد على دبلوماسية مشتركة للبلدين للوصول إلى تحقيق "عضوية دائمة" لألمانيا في مجلس الأمن؛ حيث يأتي التأكيد في المادة الثامنة من الاتفاق (المعاهدة) على أن قبول ألمانيا كـ"عضو دائم" في مجلس الأمن هو "أولوية بالنسبة للدبلوماسية الفرنسية الألمانية".
يعني هذا أن الطرفين اللذين شكلا قوة الدفع في الاتحاد الأوروبي تاريخيًا منذ معاهدة "الأليزيه" (عام 1963)، بين الزعيمين الفرنسي شارل ديجول والألماني كونراد أديناور، تلك التي شكلت محور التطورات التاريخية التالية ليس فقط على صعيد العلاقات بين البلدين وإنما الطفرة الحقيقية لمسيرة الوحدة الأوربية، هذان الطرفان يحاولان الوصول إلى رسالة واضحة للعالم تؤكد أن الدولتين تتحركان نحو شراكة دفاعية أكثر تطورا تحتمل انضمام أطراف أوروبية أخرى؛ وتؤكد في الوقت نفسه مكانتهما كقوى دولية كبرى أقل اعتمادا على الآخرين حتى لو كان ضمن هؤلاء الحليف الأمريكي التاريخي.
ويعني هذا أيضا استمرار حدة الاستقطاب الأمريكي الأوروبي حول عدد من القضايا ذات الطابع الدولي أهمها التغير المناخي والتجارة الحرة، وهو الاستقطاب المتوقع استمراره لسنوات مُقبلة خصوصًا في سياق انضمام الصين وروسيا وكذلك اليابان إلى الأطراف الأوروبية، حول هذه القضايا؛ مما سوف يؤثر من دون شك على مستقبل المنظومة الدولية عمومًا، ومنظومة التحالفات الغربية بوجه خاص.
وهنا، لنا أن نلاحظ أن الاستقطاب الذي تقوده ألمانيا وفرنسا يحدث في حالة من "السيولة" الدولية، لكنها أقل خطورة من زمن الحرب الباردة؛ على الأقل من منظور أن القوتين الأوروبيتين تجمعهما علاقات وتفاعلات وثيقة مع روسيا وإلى حد ما الصين، وبالتالي لا يشعران بنفس التهديد مثلما كان أيام الحرب الباردة وهو ما يدفع إلى أن يأخذ التطور الطبيعي لهذه العملية التاريخية مداه، حتى وإن كان يتم بهدوء وبقدر من البطء.
التنافس مع أمريكا
ربما، لا نغالي إذا قلنا إن استمرار مثل هذا الاستقطاب سوف يدفع إلى تدعيم التحالف الألماني الفرنسي في نطاق الاتحاد الأوروبي، خصوصا في ظل تأكيد الطرفين أن اتفاق باريس، الذي يتعلق بالتغير المناخي، كمثال "لا رجوع عنه" بالرغم من الانسحاب الأمريكي منه، إضافة إلى إعلان ألمانيا بوضوح مساندتها لمشروع الرئيس الفرنسي ماكرون، كمثال آخر، الذي يهدف إلى تعزيز الدفاع على المستوى الأوروبي عن القطاعات الصناعية الاستراتيجية "في مواجهة أطماع الخارج"؛ رغم دعوة ماكرون إلى "تفادي القطيعة مع الولايات المتحدة، وعدم عزل واشنطن".
والواقع، أن استمرار ذلك الاستقطاب بما يقدمه للتحالف الألماني الفرنسي من تدعيم سوف يدفع إلى بناء تحالف ـ أكثر اتساعا ـ يشمل أوروبا مع عمالقة آسيا، كالصين والهند، وقبلهما اليابان، يؤكد هذا التحركات التنسيقية بين الاتحاد الأوروبي واليابان في اتجاه اتفاق تجاري بينهما، كـ"خطوة" في مواجهة تحركات الإدارة الأمريكية، بعد انتخاب ترامب، للانسحاب من اتفاق التجارة عبر المحيط الهادي وترك المحادثات مع الاتحاد الأوروبي في حالة مُعلقة.
وهكذا، يبدو أن ما يُعزز هذا الاستقطاب الأمريكي الأوروبي هو توجهات واشنطن نحو الحمائية والانعزالية والاختلافات مع أوروبا عموماً بخصوص صادرات الصلب الأوروبية؛ كذلك الاختلافات "الأمريكية – الألمانية"، في ما يتعلق بالصادرات الألمانية من السيارات وغيرها، وهو الخلاف الذي يضع ألمانيا في موقع قيادة المواجهة مع الولايات المتحدة وإدارتها في ما يخص الدفاع عن مبادئ حرية التجارة العالمية.
إلا أن المفارقة المثيرة هنا تتعلق بانقلاب المواقف الدولية حول التجارة العالمية كأحد المؤشرات الدالة على الملامح المستقبلية للمنظومة الدولية؛ فالصين تبدو من أبرز المدافعين عن حرية التجارة إلى جانب ألمانيا وفرنسا في حين أن الولايات المتحدة، تبدو ضد هذا التوجه، هذه المفارقة في نظرنا، لم تأت من فراغ أو من توجهات القيادات السياسية في كلٍ من القوى الدولية الكبرى، بل هي تعبير عن محاولات هذه القوى لأخذ مواقع متقدمة على خريطة العالم المستقبلية.
التنافس الغربي
في هذا الإطار، تتبدى الوضعية الجديدة لخريطة النظام الدولي وملامحها المستقبلية، بما فيها المنظومة الغربية نفسها تلك التي سوف تختلف عن تلك التي تعوَّد عليها العالم طيلة عقود مضت؛ هذا بصرف النظر عن مدى نجاح التحالف الألماني الفرنسي، في تحويل أوروبا، كـ"اتحاد"، إلى قطب دولي حقيقي.. أم لا؛ وذلك في إطار النظام الدولي الذي يتشكل الآن ببطء شديد.
ولعل قولنا الأخير، هذا، يعود إلى بعض الاعتراضات من أطراف أوروبية، أهمها بولندا والمجر، على القيادة المشتركة لكل من ألمانيا وفرنسا للاتحاد الأوروبي؛ فضلًا عن إيطاليا التي دخلت في تعقيدات شديدة تتعلق بالتنافس مع فرنسا في الساحة الأفريقية ارتباطا بمسألة قضايا المهاجرين، وكذا ما يختص بالتنافس على النفوذ والنفط في ليبيا.
أما بريطانيا، التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي، فإنها سوف تجد نفسها مضطرة إلى الالتحاق بالقطب الأمريكي، مع تزايد الاحتمال بتفعيل الحديث عن اتفاقية تجارة حرة بينهما، وهو الحديث الذي تصاعد بعد اللقاء الذي جمع ترامب مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، خلال قمة العشرين الأخيرة.
في هذا السياق، فإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى الإبقاء على بنية النظام الدولي وأنماط تفاعلاته ومؤسساته، تلك التي تضمن لها مكانة متميزة، إلا أن التغيرات في خريطة العالم السياسية والاقتصادية، أدت إلى ظهور قوى أخرى تجد مصالحها في تغيير بنية النظام السائد وأنماط تفاعلاته ومؤسساته، خاصة أن لديها الإمكانات اللازمة والمطلوبة، لإحداث هذا التغيير، وبالطبع، يأتي في مقدمة هذه القوى ألمانيا وفرنسا.
ومن ثم، فإن الاحتمال الذي يبدو في الآفاق يتعلق بإمكانية أن يشهد المستقبل تغيرا جوهريا في منظومة القوى الغربية ويعد توجها يمكن أن يؤدي إلى توالد مصطلحات من قبيل الغرب "الأوسط" (دول أوروبا الغربية)، والغرب "الأقصى" (أمريكا وبريطانيا)، كتعبير عن التمايز الغربي في السياسات الاقتصادية، والرؤى الاستراتيجية عموما.
ويبقى التساؤل، هل نأخذ نحن العرب الاستقطاب الأمريكي الأوروبي ونتائجه المحتملة والمتوقعة، في الاعتبار في ما يأتي من مستقبل الأيام؟.
ما يعنينا، هنا، هو التأكيد على أن المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي تتسم بالسيولة، وأحيانا تتخللها حالة من الانفلات والفوضى، واتساع مساحة عدم اليقين؛ وأن هذه الوضعية تؤدي بالدول إلى فك وإعادة تركيب تحالفاتها الدولية والإقليمية، بحيث تصبح تلك التحالفات أكثر مرونة وبحيث تقتصر على بعض المجالات دون غيرها، مع إمكانية أن تختلف درجة التحالف من مجال إلى آخر.. ولعل هذا نفسه ما يفتح مجالا واسعا للقوى العربية لأجل انتزاع مكان لها، عبر فك وإعادة تركيب تحالفاتها، الدولية والإقليمية بما يضمن مصالحها.
aXA6IDMuMTQ1LjkuMjAwIA== جزيرة ام اند امز