اقتصاد
زيادة الضرائب الأمريكية.. علاج فجوة الدخل أم حيلة انتخابية؟
ارتباط الانتخابات بالضرائب، هى عامل أساسي في توسيع المشاركة السياسية
صدق أو لا تصدق! في أول محاولة لدخول البيت الأبيض، طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بفرض ضرائب ثروات على الأمريكيين الذين تتجاوز ثرواتهم 10 ملايين دولار!
كما نعلم، لم تستمر حملة ترامب الانتخابية في عام 1999 طويلا؛ فانسحب طاويا معه مقترحاته الضرائبية؛ ما يدفعنا لاستعادة رؤى ترامب في تلك الحملة الانتخابية ليس قيامه بفرض سياسة خفض وإعفاءات ضريبية عند وصوله إلى البيت الأبيض بعد ذلك بسنوات، بل النقاشات الواسعة التي بدأت منذ نهاية العام الماضي حول زيادة الضرائب خاصة بعد أن تسلم لواء الدفاع عنها مرشحون لتمثيل الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ارتباط الانتخابات بالضرائب، التي كانت عاملا أساسيا في توسيع المشاركة السياسية، ليس جديدا، كما أن الأموال العامة هي "أموال دافع الضرائب" بل يطلق البعض على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بلاد "العم سام"، رمز الحكومة وجهازها الضريبي.
الجديد في الساحة الأمريكية هو عودة الحديث بقوة عن فرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء، والنبرة العالية ضد تفاقم فجوة الدخل بين فئة صغيرة لا تتجاوز 1% من السكان وبقية الشعب.
ضربة البداية، جاءت من عضوة الكونجرس ذات الـ29 ربيعا، إلكسندريا أوكاسيو كورتيز، التي دعت لرفع معدل الضرائب على من يزيد دخلهم على 50 مليون دولار إلى 70%، فيما ترى إليزابيث وارين، الطامحة للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في السباق الرئاسي المقبل، فرض ضريبة 2% على من تتجاوز ثرواتهم 50 مليون دولار و3% على من تتجاوز ثرواتهم مليار دولار، أما السياسي المخضرم بيرني ساندرز فيدعو لفرض ضريبة على التركات "الإرث" تصل إلى أكثر من 70%.
ويبدو أن هذه الدعوات، رغم اختلافها في نوع الضرائب المقترح فرضها، ستكون سلاحا فعّالا في انتخابات 2020؛ حيث تظهر استطلاعات الرأي قناعة غالبية الأمريكيين بأن "الحكومة تتعامل مع الأثرياء بلطف"، فضلا عن الإحصاءات التي تُظهر أن مستويات الضرائب على الشريحة الأعلى دخلا منخفضة وبلغت أدنى مستوياتها في تاريخ الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، فإن الفجوة بين الأعلى دخلا، الذين يمثلون أقل من 1% من إجمالي السكان، والفئات الأخرى تتسع بشكل متسارع، وتُنذر بنتائج وخيمة.
تاريخيا، لم يقل معدل الضرائب على الشريحة الأعلى دخلا في أمريكا عن 69%، وبلغت النسبة فوق الـ90% منذ بداية الخمسينيات إلى منتصف الستينيات ثم تراجعت إلى 70% من عام 1965 إلى 1981 حين قام الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، الذي شجع سياسات "ترك الحبل على الغارب لآليات السوق"، بتخفيضها إلى 50%، لتصل في الوقت الحالي إلى 37%.
مع اتساع فجوة الدخل، يُحذر أستاذا الاقتصاد في جامعة بيركلي، إيمانويل سايز وجابرييل زوكمان، من استمرارها ونتائجها؛ إذ يقولان إن "تركز الثروة يعني تركز السلطة الاقتصادية والسياسية في أيدي قلة"، وهو ما يمثل ضربة قاضية للديمقراطية.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد أشارت دراسة حديثة إلى أن نسبة الطلاب الأمريكيين الذين لا يستطيعون إنجاز واجباتهم المدرسية بسبب ضعف الاتصال بالإنترنت أو عدم صلاحية جهاز الكمبيوتر تصل إلى 17%، وترتفع النسبة إلى 24% لدى أطفال العائلات التي يقل دخلها السنوي عن 30 ألف دولار، بينما تنخفض إلى 9% عند أطفال الأسر التي يزيد دخلها السنوي على 75 ألف دولار.
ويشير سايز وزوكمان، الخبيران في اللامساواة الاقتصادية، إلى أن حصة الـ0.1% الأعلى دخلا من إجمالي الدخل القومي كانت تبلغ 7% في نهاية السبعينيات من القرن الماضي (أي قبل المرحلة الريجانية) مقارنة بـ20% حاليا (ارتفعت بمقدار2.85 مرة)، بينما تراجعت حصة 90% من الأمريكيين الأقل دخلا من 35% إلى 25% حاليا، فيما تراجعت حصة 9.9% المتبقية من السكان من 58% إلى 55% من الدخل.
يرى المدافعون عن زيادة الضرائب على الأعلى دخلا أنها وسيلة فعّالة لردم فجوة الدخل، وتمويل المشاريع الاجتماعية، وتقول إليزابيث وارين إن خطتها ستجمع نحو 2.75 تريليون دولار خلال عقد واحد من أجل تمويل برامج رعاية الأطفال وإعفاء قروض الدراسة الجامعية للطلاب والطاقة المستدامة. ويشير مدافعون عن خطة وارين إلى أنها تمس 75 ألف شخص فقط (عدد من تبلغ ثرواتهم أكثر من 50 مليون دولار)، فيما يبلغ عدد سكان أمريكا أكثر من 327 مليون نسمة.
وسيرفع المقترح، إذا وجد طريقه للتطبيق، معدل الضرائب المفروضة على الأثرياء، الذين يشكلون 0.1% من السكان، من 36% حاليا إلى 48%، فيما سيرتفع معدل الضرائب التي يدفعها "نخبة الأثرياء"، الذي يمثلون 0.01% من عدد السكان، إلى 57%، وهي معدلات لا تختلف عن المستويات الضريبية في الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1981.
مع تصاعد الأصوات الداعية لنصب "مقصلة الضرائب" على فائقي الثراء، لم يكن غريبا أن يقول المستشار الاقتصادي للرئيس ترامب، ورئيس العمليات السابق لمصرف جولدمان ساكس، جاري كوهن، إن "رفع الضرائب على الأثرياء سيضر الاقتصاد".
يرى كوهن ورفاقه من معارضي زيادة الضرائب أنها ستؤثر على النمو الاقتصادي وتزيد معدلات التهرب الضريبي وتقلل الابتكار، كما أن خفض الضرائب على الأثرياء منذ "الفترة الريجانية" أدى لإنعاش النشاط الاقتصادي ومثل آلية فعالة في تنشيط إنفاق المستهلكين.
على العكس من ذلك، يعتقد بروفيسور ماثيو ديميك، في دراسة عن العلاقة بين القانون واللامساواة، أن "زيادة معدل ضرائب الدخل لا تؤثر سلبا على النمو الاقتصادي بل قد تحفزه".
في الواقع، فإن النمو الاقتصادي في أمريكا لم يتأثر مباشرة بارتفاع الضرائب في فترات كانت فيها معدلات الضرائب أعلى بكثير مما يقترحه أقطاب الحزب الديمقراطي حاليا، ولا يبدو الارتباط مباشرا بين رفع الضرائب وتراجع معدلات النمو؛ فقد ارتفع معدل الضرائب على الشريحة الأعلى دخلا إلى 90% خلال الحرب العالمية الثانية، ثم انخفض إلى 70% حتى 1981، التي شهدت فترات انتعاش وركود، كما أن التخفيض الضريبي لم يضمن تحقيق النمو الاقتصادي؛ حيث شهدت الفترة من عام 1981 حتى الآن فترات ركود وأزمات اقتصادية متعددة مثل أزمات 1990 و2001 و2007.
ويبدو أن زيادة الضرائب على الأعلى دخلا تجد قبولا واسعا؛ حيث توضح استطلاعات للرأي العام أن 61% من الأمريكيين المسجلين في كشوفات الانتخابات يوافقون على مقترح إليزابيث وارين بفرض ضريبة 2% على من تزيد ثرواتهم على 50 مليون دولار و3% على أكثر من مليار دولار، فيما تبلغ نسبة الجمهوريين المناصرين للمقترح 50%. ويوافق 59% على مقترح أوكاسيو كورتيز برفع معدل الضرائب على الأعلى دخلا إلى 70%، وتصل النسبة في أوساط الجمهوريين إلى 45%.
ورغم أن خطة اليزابيث وارين تجد دعما من شخصيات بارزة في علم الاقتصاد؛ فإن صعوبة تقييم الثروات التي تضم أصولا سائلة وغير سائلة، بشكل دوري، تجعل تطبيقها أمرا شائكا، وهو الأمر الذي دفع ثماني دول لإلغائها.
وترى مجلة "الإيكونوميست" أن زيادة ضرائب التركات "الإرث"، مثل التي تقدم بها بيرني ساندرز، الأفضل في تقليل فجوة الدخل، فضلا عن ضرائب العقارات والشركات.
أما زيادة معدل الضرائب للشريحة الأعلى دخلا؛ فهناك اتفاق بأن المعدل الحالي في أمريكا (37%) يُعَد منخفضا مقارنة بالدول الغنية، لكن زيادتها مرة واحدة إلى 70% أمر يحتاج للمزيد من البحث والنقاش.
ومهما تكن الخلاصة التي ستصل إليها النقاشات، فإنها ألقت حجرا مهما في بحيرة اللامساواة الاقتصادية؛ حيث يوضح استطلاع للرأي أجرته جالوب في عام 2018 أن 66 من الأمريكيين غير راضين عن توزيع الثروة في بلادهم.