عالم أزهري لـ"العين الإخبارية": رجب شهر غرس ثمار رمضان.. والإسراء والمعراج فوق المعجزة (حوار)
بعد أيام قليلة، يهل علينا شهر رجب المعظم، وهو أحد الأشهر الحرم الأربعة التي لها مكانة كبيرة في الشريعة الإسلامية.
لغويًا جاءت كلمة رجب من الرجوب بمعنى التعظيم، ويمتاز الشهر بحدوث آية الإسراء والمعراج به، وهي حدث فوق المعجزة، أسرى الله فيه بنبيه محمد (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماوات العلى.
خلد الله ذكر الإسراء والمعراج في سورتين في القرآن الكريم هما الإسراء والنجم، وكانت الحادثة من الآيات الكبرى التي تحدى الله بها مشركي قريش والرافضين للإقرار بالرسالة المحمدية.
"العين الإخبارية" حاورت العالم الأزهري الدكتور سامي العسالة، مدير إدارة التفتيش الديني السابق بوزارة الأوقاف المصرية، والمعتمد في البرامج الدينية الحكومية لدى الهيئة الوطنية للإعلام في مصر، للوقوف على أهمية شهر رجب وهل له طقوس معينة في الطاعات الدينية وأبرز الأحداث التي وقعت به.
وإلى نص الحوار:
في البداية.. هل توجد أفضلية لشهور بعينها في الشريعة الإسلامية؟
الله تبارك وتعالى فضل الليالي والشهور والأيام والساعات بعضها على بعض، كما اصطفى من خلقه رسلا، ومن الملائكة رسلا، واصطفى من الأرض المساجد، كذلك اصطفى من الشهور رمضان وهو أفضلها على الإطلاق، وكذلك الأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالى ليلة القدر.
والأشهرِ الحرم معظمة، لأن الله تعالى أمر بتعظيمها وإجلالها والالتزام فيها أكثر بدوام الطاعات والعبادات المتنوعة، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ).
ويجب على المسلم أن يحذر من المعصية فى الأشهر الحرم، لأن المعصية فيها ليست كالمعصية فى غيرِها، بل تكون أعظم والذنب فيها إثمه أكبر وأجرم، يقول الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، أي: ذنب عظيم وجرم خطير، فهو كالظلم والمعصية فى البلد الحرام الذى قال الله عز وجل فيه: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم).
وقال حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، فى تفسير قوله تعالي: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ـ كما روى الطبري فى تفسيره-: "في كلِّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهرٍ فجعلهنَّ حراماً، وعَظّم حُرُماتِهنَّ، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظمَ"، وعن قتادة رحمه الله قال: "إنّ الظلمَ فى الشهرِ الحرامِ أعظمُ خطيئةً ووزراً من الظلمِ فيما سواهُ، وإنْ كان الظلمُ على كلِّ حالٍ عظيماً، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ من أمرِه ما شاء".
ما هي فضائل شهر رجب تحديدا؟
الله تعالى إذا أراد أن يفضل شهرا من شهور العام، فإما أن يفضله تعالى بفريضة كالصيام أو الحج، وإما بميزة من المزايا، كليلة مولد النبي (ص) التى فضل بها شهر ربيع الأول، أو ليلة الإسراء والمعراج التي فضل بها شهر رجب.
ومن فضائل شهر رجب أنه الشهر الذي حدثت فيه معجزة الإسراء والمعراج، والتي كانت في يوم 27 من الشهر، فهو شهر قرب الحبيب من الحبيب، كما أن الله عز وجل قد حرم فيه القتال، كما سمي برجب مضر لأن هذه القبيلة العربية كانت تعظمه، كما سمي برجب الأصم لأنه لم تكن تسمع فيه قعقعة السلاح ولا غوغاء المشاحنة، كما أن الله عز وجل قد حرم فيه القتال، وجعله من الأشهر الحرم.
ووضع الحافظ أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، رسالة بعنوان "تبيِين العجب بما ورد في فضل رجب"، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة في فضائل شهر رجب وصِيامه والصلاة فيه، وذكر له ثمانيةَ عَشَرَ اسمًا، من أشهرها "الأصمّ"، و"الأصبّ" لانصباب الرّحمة فيه، و"منصل الأسِنّة" كما ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبُد الحجرَ، فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْوةً من تراب ثم جئنا الشّاءَ- الشِّياه- فحلبْنا عليه ثم طُفنا به، فإذا دَخل شهر رجب قلنا: منصل الأسنّة، فلم نَدع رُمحًا فيه حَديدة، ولا سهمًا فيه حَديدة إلا نزعناه فألقيناه.
ما أفضل الطاعات التي يمكن القيام بها في رجب؟
من مظاهر تفضيل الأشهر الحرم- بما فيها رجب- ندب الصيام فيها، فالعمل الصالح في شهر رجب كالأشهر الحُرم له ثوابه العظيم، ومنه الصيام، يستوي في ذلك أول يوم مع آخره.
ومن خير ما يقوم به العبد في هذا الشهر الكريم، هو الإكثار من ذكر الله عز وجل، والنهي عن الظلم، إشارة لقول الله تعالى: "فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ"، وشهر رجب هو شهر الغفران وأحد الأشهر الثلاثة المتميزة بكثرة الثواب لمن أحياها بالعبادة والتهجد والدعاء والذكر، حيث يُضاعف فيها الأجر والثواب.
عن أنس بن مالك أنه قال: سمعت النبي (ص) يقول: "مَنْ صَامَ يَوْماً مِنْ رَجَبٍ إِيمَاناً وَ احْتِسَاباً جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّارِ سَبْعِينَ خَنْدَقاً عَرْضُ كُلِّ خَنْدَقٍ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ" .
كيف نجعل شهر رجب بداية الاستعداد لشهر رمضان؟
رُوي أن النبي (ص) كان إذا رأى هلال رجب قال: "اللّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي رَجَبٍ وشَعْبانَ، وَبَلِّغْنا رَمَضانَ، وَأَعِنَّا عَلَى الصِّيامِ وَالْقِيامِ، وَحِفْظِ اللِّسانِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ، وَلا تَجْعَلْ حَظِّنا مِنْهُ الْجُوعَ وَ الْعَطَشَ".
ولم يكن استعداد السلف الصالح لاستقبال شهر رمضان المبارك في شهر شعبان فحسب، بل كانوا يستعدون لشهر رمضان في شهر رجب أيضا، وكان بعضهم يقول: "رجب شهر الغرس، وشعبان شهر السَّقي، ورمضان شهر جَنْي الثمار، فإذا أردت جَنْي الثمار في رمضان؛ فلابد من الغرس في رجب، وسَقْي ذلك الغرس في شعبان".
وشبه السري السقطي -رحمه الله- العام بالشجرة، والشهور بالفروع، والأيام بالأغصان، والساعات بالأوراق، وأنفاس العبد بالثمار، وبين أن شهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها؛ ولذلك ينبغي الاستعداد بغرس الأعمال الصالحة في رجب، والاستمرار والمواظبة عليها في شهر شعبان؛ لقطف الثمار، والشعور بلذة العبادة في رمضان.
بمعنى أن كل الذى تريد أن تحصده في رمضان يجب أن تزرعه أولاً فى رجب وشعبان، وعلينا أن نستعد لشهر رمضان المبارك بصيام التطوع في رجب والتوبة النصوح والذكر والدعاء والطاعات.
الإسراء والمعراج من مناسبات شهر رجب.. ما هي حكمتها؟
لطالما سمعنا أن رحلة الإسراء والمعراج كان سببها؛ التسرية عن رسول الله (ص) بعد الذي أصابه من رحلة الطائف؛ ووفاة عمه أبي طالب وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، غير أن هناك حكما أخرى كثيرة لهذا الحدث، الذي يعتبر حدثا فوق المعجزة، منها تحقيق الرحمة لأهل السماء، كما تحققت لأهل الأرض، فيتحقق قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".
كذلك من حكم الإسراء والمعراج: تحقيق قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"، والشاهد مطالب بحقيقة ما يشهد به.. فكأن الحق سبحانه يقول له: "أريك جنتي لتشاهد ما أعددت فيها لأوليائي، وأريك ناري لتشاهد ما أعددت فيها لأعدائي".
ومن هذه الحكم كذلك: رؤية الآيات الكبرى: وإذا كانت الآيات القرآنية التي تحدثت عن المسرى قليلة إلا أنها لم تغفل المقصد من ورائه، قال تعالى: "لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا" [الإسراء: 1]، جاء ذلك تعليلا وبيانا للمقصد: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" [الإسراء: 1].
ويقول ابن عاشور عن رحلة الإسراء والمعراج: "لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا" تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليل ببعض الحكم التي لأجلها منح الله نبيه منحة الإسراء.
وللإسراء حكم جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في "الصحيح"، وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، ومن أعظم هذه الآيات: رؤية الباري تبارك وتعالى بالنور الذي قواه.. قال تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى".
ويؤكد الإمام أبوالعزائم أن هذه الليلة أثبتت علو مكانة رسول الله (ص) على باقي المرسلين، الذين طلبوا رؤية الله ولم يجبهم، فيقول: "تفضل سبحانه عليه بما لم يتفضل به على أحد من أولي العزم إعلاما منه بمنزلته لديه جل جلاله، ودليلا على أنه حبيب الله تعالى الذى أقامه مقاما لم يقم فيه أحدا من أولي العزم".
هل هناك مناسبات أخرى في رجب؟
بالطبع، من المناسبات في رجب مولد الامام علي كرم الله وجهه، حيث ولد في الكعبة المشرفة في الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل- السنة العاشرة قبل البعثة.
وكذلك ذكرى وصول السيدة زينب إلى القاهرة، حيث اختارت السيدة زينب مصر لتقيم فيها، لتكون أولى نساء أهل البيت اللاتى شرفن أرض مصر بالمجيء إليها، ويتم الاحتفال بيوم وصولها في الثلاثاء الأخير من شهر رجب.
كما شهد شهر رجب العديد من الأحداث الهامة الخاصة بالمسلمين، ومنها هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة في السنة الخامسة من البعثة، وغزوة تبوك في غرة شهر رجب في السنة التاسعة للهجرة، ورحلة الإسراء والمعراج، ووقوع معركة اليرموك بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، والروم، في وادي اليرموك.
aXA6IDMuMTQ5LjI1MS4yNiA= جزيرة ام اند امز