البغدادي يقر بالهزيمة لكن المعركة لم تنته حسب زعمه بل بدأت ونستخلصها من إشارته إلى التفجيرات الإرهابية في سريلانكا التي تبناها التنظيم
باتت نهاية التنظيم المتطرف "داعش" محتومة ولا جدال فيها بحسب الوقائع والأحداث والحقائق، فلم تمضِ سوى أيّام على إعلان انتهاء معركة "الباغوز" في شرق سوريا والقضاء على آخر جيبٍ من جيوب تنظيم "داعش" الإرهابي إثر هزيمة نكراء على يد قوات "سوريا الديمقراطية" المدعومة من التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. لقد كانت هزيمة مدوية كشفت عقب انتهائها هلهلة التنظيم وانهزامه عسكرياً ومعنوياً ونفسياً، كما تبين في المقابلات التي أجرتها عدة جهات صحفية مع المعتقلين من أفراد التنظيم، وإذا ما طالعنا تلك اللقاءات نجد أن أغلب العناصر المعتقلة تعيش حالة الذل والانكسار والخيبة والخذلان، لا سيما إذا ما سئلوا عن زعيمهم "البغدادي" الذي لا يعلمون عنه شيئاً سوى أنّه خذلهم وتركهم ليواجهوا مصيرهم في الوقت الذي اختبئ في مكان غير معلوم حتى من قادة الصف الأول في التنظيم إلى حين ظهوره قبل يومين في تسجيل مرئي.
لا شكّ أن كل هذه الرسائل لا تدل في الحقيقة إلا على الهزيمة النكراء، وأن التنظيم بات يلفظ أنفاسه الأخيرة، ومحاولة لعب كل ما تبقى له من أوراق للفظ الرمق الأخير في حياته، لا سيما إذا ما قرأنا الناحية الشكلية لزعيم التنظيم بالمقارنة بين ظهوره إبان سيطرة التنظيم على الموصل واليوم
من المعلوم أن هذه التنظيمات تتبع أسلوب التسجيلات المرئية أو الصوتية المقتضبة، وذلك لإشغال الرأي العام العالمي بالتحليل والقراءة لها من جهة ولتوجيه رسالة مفادها التأكيد على وجودها. ولكن يمكن استخلاص عدة دلالات لهذا التسجيل الأخير للبغدادي ومنها:
أولاً: على الصعيد الهيكلي حيث يأتي هذا التسجيل بعد هزيمة التنظيم في "سوريا"، فحمل رسالة لعناصر التنظيم الذين ركز من اُعتقل منهم في كل اللقاءات التي أُجريت معهم على خذلان البغدادي لهم، فهذه التنظيمات تعتمد في الإمرة عليها نظام البيعة، وهو نظامٌ ديني من صلب عقيدة هذه التنظيمات المتطرفة التي لا يمكن المساس بها أو تجاوزها، ومن يتجاوز مقتضياتها – في معتقدهم – خائن مرتد منافق. وهذا النظام يقتضي من المبايِع أن يلتزم ببيعته والدفاع عن من بايعه حتى الموت، كما يقتضي من المبايَع أن يذود عن مبايعيه وألا يخذلهم أبداً، ولكن اختفاء البغدادي وترك عناصره وخذلانه لهم ضرب العمود الفقري لجوهر الهيكلية التنظيمية مما جعل التنظيم يتفكك ويتهاوى بشكل أسرع. وعلى هذا فما ظهور البغدادي إلا رسالة لمبايعيه من المتطرفين الذين غُسلت أدمغتهم بأنّه ما زال موجودا وقائما على ما يسمونها "البيعة" التي بينهم، وما اختفاؤه إلا لضرورة استلزمتها مصلحة التنظيم ولا سيما أن الشريط المسجل له كان يظهره والسلاح بجانبه وبزيٍّ ميداني بسيط، وكأنه يقول لعناصره بأنّه ما زال على رأس التنظيم مقاتلاً في جبهات القتال التي لم يبق منها شيء.
ثانياً: على الصعيد المعنوي: تعزز هذه التنظيمات معنويات عناصرها باللعب على الوتر الديني مقلّبة ومفسّرة النصوص الدينية على هواها وحسب ما تقتضيه أهدافها المتطرفة التي يتبرأ منها الدين بل وحتى الشيطان. والبغدادي ركز في جانب كبير من تسجيله على هذا الجانب، بدءاً من الثناء على الأبطال – على حد وصفه – من عناصر التنظيم الذين قضوا في معركة "الباغوز" الأخيرة سارداً عدداً كبيراً منهم بالاسم والكنية، كتمجيد لما قاموا به، كما ركز على أن هذا الأمر من الهزيمة ديني بحت، وأمر إلهي لحث عناصره على الرضى والثبات بأنّهم قدموا كلّ ما يستطيعون وليس لهم إلا أن ينتظروا أمر الله، فقد قال البغدادي – راجع التسجيل الذي نشره التنظيم المتطرف للبغدادي: "الله أمرنا بالجهاد ولم يأمرنا بالنصر"، وما ذلك إلا رسالة لبث الروح المعنوية المتهالكة في نفوس أفراد التنظيم بل وحتى في رؤوسهم التي تخلخل فكرها الانتمائي لهذا التنظيم وزعيمه المتقاعس المتخاذل، حسب ما تقتضيه الهيكلية التنظيمية من المبايَع.
ثالثاً: على الصعيد الميداني وهذا هو الجانب الأهم والأخطر من الرسائل الموجهة في التسجيل فقد أقر "البغدادي" بالهزيمة، ولكن المعركة لم تنته حسب زعمه بل بدأت مرحلة جديدة نستخلص ملامحها من إشارته إلى التفجيرات الإرهابية في "سريلانكا" التي تبناها تنظيم "داعش"، فقد وصفها البغدادي بأنها عمل بطولي وثأر لمعركة الباغوز"، في إشارة إلى أن التنظيم ينقل نشاطه من الميدان المباشر والصدام المسلح إلى تنفيذ العمليات الغادرة، وتحول العناصر من مقاتلين إلى ذئاب منفردة. كما تدل على أن التنظيم لن يستثني مكاناً من العالم أوروبياً أو آسيوياً عربياً أو أجنبياً بل كل الميادين مفتوحة لتنفيذ عملياته الإرهابية بأسلوب "الذئاب المنفردة". وعليه لابدّ من تظافر الجهود الدولية جميعاً لتوحيد الجهد الاستخباراتي والتنسيق فيما بين الدول لضبط تحركات العناصر المتطرفة التي يهدد بها البغدادي وتنظيمه أمن وسلامة الآمنيين على وجه المعمورة.
لا شكّ بأن كل هذه الرسائل لا تدل في الحقيقة إلا على الهزيمة النكراء، وأن التنظيم بات يلفظ أنفاسه الأخيرة ومحاولة لعب كل ما تبقى له من أوراق للفظ الرمق الأخير في حياته، لا سيما إذا ما قرأنا الناحية الشكلية لزعيم التنظيم بمقارنة بين ظهوره إبان سيطرة التنظيم على الموصل واليوم؛ ففي الموصل ظهر على العلن بين العامة في المسجد وفي صلاة الجمعة خطيباً منتقياً كلماته التي اتسمت بالقوة وعلو الطبقة الصوتية والكلام عن النصر والفتح المبين، وأنصاره يهتفون بحياته ودون سلاح وبهيئة لا تخلو من الفخامة، بدءاً من اللحية المشذبة إلى العمامة والعباءة الفاخرة، وليس انتهاءً بساعة يده "الروليكس". أما اليوم فنراه أبيض اللحية مهملة، وفي مكان مجهول على أثاث بدائيٍ، وبزي أقل من عادي وبنبرة صوت يشوبها عدم الثقة والسلاح إلى جانبه، مع إخفاء وجوه كل مَن معه، وما ذلك إلا رسالة حقيقية ولا نبالغ إن قلنا الأخيرة بأنّ التنظيم ينازع من أجل البقاء نزاعاً لا طائل منه، ويرقص رقصة الموت الأخيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة