قصف قاعدة "الوطية".. تحجيم لتركيا وإفشال سياسة الأمر الواقع
الضربة نجحت في إظهار فشل تركيا، وتحجيم نفوذها وإفشال سياسة الأمر الواقع، التي كان يحاول أردوغان فرضها.
شكّل استهداف قاعدة الوطية الجوية في ليبيا، جنوب غرب طرابلس، الخاضعة لسيطرة مليشيات الوفاق وتركيا، تحولًا مهمًّا في تطورات الأزمة الليبية خلال المرحلة الأخيرة.
الاستهداف تأتي أهميته لتزامنه مع سعي تركي للتأكيد على النفوذ الكبير في ليبيا، وكذلك في ظل دقة القصف والخسائر الكبيرة الناجمة عنه.
وبحسب تحليل نشره "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، فإن الضربة أظهرت فشل تركيا التي لم تستطع رصدها ولا التصدي لها، وكذلك نجحت في تحجيم نفوذها وإفشال سياسة الأمر الواقع، التي كان يحاول نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فرضها على الأرض.
وأثبتت الضربة كذلك وجود قوى إقليمية ودولية قادرة على تغيير التوازنات على الأرض في أي وقت بمعزلٍ عن تركيا.
وكان الجيش الوطني الليبي كشف، في 6 يوليو/تموز الجاري، أن عملية استهداف قاعدة الوطية الجوية، تمت عبر استهداف 9 مواقع تركية في القاعدة، وأن نسبة تدمير التجهيزات بالقاعدة بلغت نحو 80% تقريبًا.
الانكشاف التركي
جاء قصف قاعدة الوطية ليعكس انكشافًا تركيًّا كبيرًا، خاصةً وأنه لم يخرج أي صاروخ من القاعدة تجاه المقاتلات التي نفذت العملية.
وقد نجحت الضربة في استهداف منظومات الدفاع الجوي التركية "صونغور"، والرادارات الثابتة والمتحركة، ومنظومة "كورال" للتشويش الإلكتروني، والتي كانت وحدات الجيش التركي قد ثبتتها في القاعدة.
ويمثل هذا القصف رسالة شديدة اللهجة لأنقرة بأنها مهددة، ليس فقط في حال تقدمها نحو سرت أو الجفرة وصولًا للهلال النفطي الليبي شرق البلاد، ولكن حتى في أماكن تمركزها في الغرب الليبي.
تطويق نفوذ أنقرة
وأقرت تركيا بحدوث القصف، لكنها حاولت التقليل من الخسائر، حيث أكد مسؤول تركي بوزارة الدفاع، لم يُحدّد، في 6 يوليو/تموز الجاري، أن قصف القاعدة تسبب في تعطيل بعض الأنظمة بها، معتبرًا أن ذلك من شأنه أن يُعزز من حالة عدم الاستقرار.
وتزامن ذلك مع إشارة مصادر محلية ليبية إلى مغادرة عدد كبير من القوات التركية من القاعدة، وهو ما يعكس أهمية القصف الذي أجبر أنقرة على التراجع، وبما يمثّل ردعًا كبيرًا للرغبة التركية في مواصلة التقدم باتجاه شرق ليبيا.
القدرة على تغيير التوازنات
وجاءت الضربة العسكرية للقاعدة بعد يومين فقط من زيارة وزير الدفاع التركي "خلوصي آكار" إلى طرابلس، وهي زيارة استمرت يومين سعى فيها "آكار" إلى استعراض النفوذ التركي في ليبيا، كما أكد نية بلاده البقاء في ليبيا إلى الأبد.
ومن شأن تلك الضربة أن تؤكد أن أنقرة لا تملك وحدها أوراق الضغط في ليبيا، وأن هناك قوى أخرى إقليمية ودولية قادرة على تغيير التوازنات في أي وقت بمعزلٍ عن تركيا.
ولا شك أن الحديث عن استهداف جنود وقادة أتراك كبار إثر ذلك الهجوم يحمل رسائل مباشرة لتركيا بإمكانية رفع تكلفة الصراع، وأن التقدم الذي أحرزته أنقرة بدعم من الميليشيات والمرتزقة في غرب ليبيا خلال الشهرين الأخيرين لا يمكن أن يُكرّس لنفوذ تركي يتجاوز الفاعلين الإقليميين والدوليين.
صعوبة فرض سياسة الأمر الواقع
وأثبتت الضربة أن محاولات أنقرة لشرعنة انخراطها المشبوه عبر استغلال حكومة الوفاق، لن يُفضي إلى فرض سياسة الأمر الواقع في ليبيا، خاصةً وأن زيارة وزير الدفاع التركي إلى طرابلس، في 3 يوليو/تموز الجاري، قد تضمنت اتفاقًا عسكريًّا جديدًا غير معلن.
فيما أشارت مصادر مُطّلعة إلى أن الاتفاق نصّ على إنشاء قاعدة عسكرية تركية في ليبيا، إضافة إلى تأسيس قوة مسلحة تركية يتمتع جنودها وضباطها الأتراك بحصانة ضد أي ملاحقة قضائية.
ووفق الاتفاقية نفسها، يُمنح الضباط الأتراك في ليبيا صفة دبلوماسية لضمان حصانتهم.
فيما وصفت جهات ليبية الاتفاق الجديد بأنه "احتلال واضح وعلني لليبيا".
وتسير التطورات الأخيرة في ليبيا في عكس اتجاه ورغبة تركيا بشكل كبير، وقد مثّل استهداف قاعدة الوطية تكريسًا لذلك. ومن أبرز التداعيات المرتبطة بذلك:
التراجع التكتيكي
تدفع التطورات الأخيرة، خاصةً في ظل تكثيف الضغط عسكريًّا وكذلك سياسيًّا، إلى تفضيل أنقرة التراجع التكتيكي للحفاظ على مكتسباتها التي حققتها خلال الفترة الأخيرة.
وتتمثل محدِّدات الضغط جنبًا إلى جنب مع استهداف قاعدة الوطية، في حدوث تحولات مهمة في مقاربة دول الجوار تجاه الأزمة الليبية، وهو ما تجلّى مع تصريحات الرئيس الجزائري "عبدالمجيد تبون"، في 4 يوليو/تموز الجاري، بأن حكومة الوفاق الليبية لم تعد تمثل الشعب الليبي، وشدد على أن "الأحداث تجاوزتها".
وهو نفس موقف الرئيس التونسي "قيس سعيد" أواخر يونيو/حزيران الماضي، وهو ما يعكس فشلًا تركيًّا في اختراق تونس أو تحييد الجزائر تجاه مواقفهما من الأزمة الليبية.
كذلك فإن هناك ضغوطًا أمريكية أخيرة بضرورة تفكيك الميليشيات الموجودة في ليبيا، وهو ما عبّر عنه مسؤولون أمريكيون في مطلع يوليو/تموز الجاري، وهو ما يمكن أن يدفع باتجاه تعميق خلافات التحالف الميليشياوي الداعم لحكومة الوفاق وأنقرة.
ومن جانب آخر، فإن هناك بعض المرتزقة الأجانب الذين تعتمد عليهم تركيا بشكل كبير قد انسحبوا من ليبيا خلال الفترة الأخيرة.
وأشار المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 6 يوليو/تموز الجاري، إلى أن
"ما يقرب من 5250 مرتزقًا عادوا إلى سوريا، من أصل أكثر من 15 ألف مرتزق جندتهم تركيا للقتال إلى جانب الوفاق في ليبيا".
رفع مستويات التسليح
في ظل الانكشاف التركي في قاعدة الوطية، فإن المرحلة المقبلة ستشهد محاولات تركية حثيثة من أجل رفع مستويات التسليح لمناطق تمركزها أو مناطق وجود الميليشيات والمرتزقة الموالين لها عبر تدعيم منظومات الدفاع الجوي بشكل أساسي.
إلا أن ذلك لن يكون سهلًا كما كان في السابق، خاصةً في ظل تصاعد الاهتمام الأوروبي بتفعيل مهمة "إيريني" البحرية لتفعيل حظر الأسلحة على ليبيا.
وقد أعلنت إيطاليا، في 4 يوليو/تموز الجاري، المشاركة بفعالية في ذلك عبر توفير فرقاطة وطائرتين.
كذلك فإن تصاعد الهجوم الفرنسي على الدور التركي المشبوه في ليبيا يعزز الضغوط على قدرة أنقرة في خرق حظر توريد الأسلحة، خاصةً عقب إعلان باريس مطلع يوليو/تموز الجاري انسحابها مؤقتًا من عملية للأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في المتوسط اعتراضًا على الممارسات التركية.
فيما أوضح مسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية أن بلاده تريد من الدول الحلفاء في الناتو "أن يعيدوا التأكيد رسميًّا على التزامهم" بحظر الأسلحة المفروض على ليبيا.
التلويح بالتصعيد
ومن المرجّح أن تستمر أنقرة في الخطاب التصعيدي من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية خلال المرحلة المقبلة، دون أن يقترن ذلك برغبة تركية واقعية في التقدم العسكري باتجاه سرت أو الجفرة وصولًا إلى الهلال النفطي.
ومثّل استهداف قاعدة الوطية رسالة لتركيا بضرورة الحذر من مغبة أي تقدم عسكري جديد، وهو ما يعكس استمرار امتلاك الجيش الوطني الليبي أوراق الضغط الأكثر أهمية في الصراع الليبي والمتمثلة بالسيطرة بشكل أساسي على الهلال النفطي الليبي الذي تتمنى أنقرة السيطرة عليه.
كذلك فإن أنقرة مُقْدِمَة على تحدٍّ خطير متعلق بإمكانية إدارة التناقضات والخلافات المتصاعدة بين مكونات التحالف المليشياوي الداعم لها.
يأتي هذا خاصةً مع إعلان وزير داخلية الوفاق المقرب من أنقرة "فتحي باشاغا"، أواخر يونيو/حزيران الماضي، تفكيك ما يسمى بقوة الأمن المركزي أبو سليم التي يترأسها "عبدالغني الككلي".
ويسعى "باشاغا" للتجاوب مع الضغوط الأمريكية عبر تفكيك بعض ميليشيات طرابلس، وهو ما ينذر بإمكانية دخول المليشيات في مواجهات مسلحة ضد بعضها بعضًا في المرحلة المقبلة بما يُهدد النفوذ التركي في الغرب الليبي بشكل كبير.
وفي المجمل، فإن المكاسب العسكرية السريعة التي حققتها تركيا في غربي ليبيا خلال الفترة الأخيرة قد أدت إلى زيادة رغبة أنقرة في مزيد من الانخراط بالأزمة الليبية.
لكن أنقرة تواجه معضلة حقيقية تتمثل في عوائق الجغرافيا السياسية، إذ إن ليبيا ليست سوريا القريبة منها جغرافيًّا، ولذا فإن التمادي في توظيف الحلول العسكرية من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية في ليبيا لا يمثل سوى مزيد من التورط التركي في المستنقع الليبي.
خاصةً وأن التوازنات الإقليمية والدولية مختلفة كليةً عن الوضع السوري، وبالتالي فإن الفشل التركي في حماية قاعدة الوطية هو جرس إنذار حقيقي لتركيا من أجل إعادة حساباتها من جديد في الأزمة الليبية.
aXA6IDMuMTQ1LjE2MS4xOTQg جزيرة ام اند امز