
بين أروقةٍ برائحة الورق، وأجنحةٍ تعانق الثقافة، يواصل معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025 تقديم نفسه على أنه من أهم الفعاليات الثقافية.
وسط هذا الزخم المعرفي المتدفق، كان من أبرز محطات المعرض توقيع الكاتب والصحفي محمد جلال فراج لعمله الجديد "سطور الوجع"، الإصدار الثاني من سلسلته اللافتة "ريحة الورق". يأخذ هذا العمل القراء في رحلة شجية داخل الأرشيفات المنسية، مستكشفًا بأناة أعماق التجارب الإنسانية التي سكنت خلف وجوهٍ طالما أضاءت الشاشات وتصدرت الصحف، كاشفًا عن سردية مغايرة للتاريخ الشخصي والفني لعدد من الأسماء البارزة.
وفي تصريحات خاصة لـ"العين الإخبارية"، أكد فراج أن الأرشيف الصحفي الورقي الممتد لأكثر من قرن هو في تقديره "المصدر الأصدق لرصد التاريخ"، معتبرًا إياه مرآة لا تزيف التفاصيل ولا تجمّلها. فبين دفتي كل عدد قديم، كما يعبّر، تسكن لحظة نقية تُروى كما هي، دون تحريف أو اجتزاء. وقد وصفه بأنه "يحتفظ بطزاجة اللحظة وعفوية الحدث كما وقعت"، وهي طزاجة لا تتناقض مع قِدم الورق، بل تُستمد من عفويته التوثيقية.
في "سطور الوجع"، لا يستدرج المؤلف العاطفة الرخيصة، بل يقدم سردًا متأنيًا للحكايات، ملتزمًا بالأمانة والموضوعية، دون الانزلاق إلى الإثارة السهلة التي تستهوي جمهور مواقع التواصل. ويضيف: "رفضت تمامًا فكرة صبغ القصص بمبالغات صفراء لإرضاء جمهور السوشيال ميديا المتعجل. انطلقت في الكتابة من مبدأ التأمل العميق في العلاقات الإنسانية، واضعًا كل حدث في سياقه الزمني والنفسي".
تُعد معالجة فراج لحكايات شخصياته نموذجًا دقيقًا لما يسميه الفرق بين "العين الخاطفة" و"العين الراصدة". الأولى، كما يوضح لـ"العين الإخبارية"، تلتقط المشهد السطحي وتنقله كما هو، فيما الثانية تضع كل معلومة في إطارها الإنساني والزمني وتعيد بناء السرد بما يُنصف الحكاية.
وقد انعكس هذا النهج في عدة فصول من الكتاب، أبرزها ما خصصه لرشدي أباظة تحت عنوان "وقائع موت دنجوان القرن"، حيث تتبّع الكاتب تفاصيل الأيام الأخيرة للنجم السينمائي، من خلال أرشيف صحفي دقيق ومتناثر، نسج منه صورة لرجل عاش للفرح وأخفى أوجاعه بشجاعة.
كذلك تطرقه إلى مأساة أحمد زكي، بدءًا من خطبته لهالة فؤاد، وصولًا إلى الجنازة المفجعة لابنه هيثم عام 2019، مقدمًا سلسلة متتابعة من الخسارات التي رسمت خلفية حزينة لنجومية لامعة.
ولا تقتصر القصص على الأسماء الشهيرة فقط، بل تمتد إلى جوانب خفية من علاقات إنسانية مركبة، مثل العلاقة بين عادل خيري ووالده بديع خيري، وأسرار ماري منيب التي لم تُروَ، ووجع إسماعيل ابن توفيق الحكيم، ومآسي عمر خورشيد، فضلًا عن اعتزال ليلى مراد المفاجئ وصراعاتها العائلية، بخاصة مع نجلها زكي فطين عبد الوهاب.
يقول فراج في حديثه: "لم أرد أن أجعل الحكايات مأساوية مجاراة لتيار الرواج اللحظي، بل سردت ما حدث بحق، مستندًا إلى وثائق وأوراق صحفية لا تكذب ولا تتحايل على الحقائق".
وعن مشروعه الكتابي، يؤكد أنه لا يسعى إلى إعادة إنتاج الماضي، بل إعادة قراءته بأدوات جديدة، وبنظرة لا تتوقف عند الظاهر. ويضيف: "سطور الوجع هو محاولة واعية للغوص بعين راصدة، تروي تفاصيل قصص تستحق أن تُروى بحب وشغف، دون إخلال بالحقائق أو الانسياق وراء عواطف لحظية".
لا يقف طموح فراج عند هذا الكتاب، إذ أعلن لـ"العين الإخبارية" عن نيته استكمال سلسلة "ريحة الورق" بجزء ثالث، مشيرًا إلى رغبته في تعميق الطرح الإنساني وتطوير المنهجية السردية. كما يعمل حاليًا على مشروع موازٍ يتناول سيرة فنية بصورة مغايرة، تجعل من "الإنسان" قبل "الفنان" مركز الحكاية.
أما عن رأيه في مستقبل الصحافة الورقية وسط زحف الرقمنة والذكاء الاصطناعي، فقد عبّر فراج عن ثقته بأن هذه الوسيلة القديمة ما زالت تحمل قيمة لا تهتز، إذ يقول: "الصحافة الورقية ليست تجارة بائدة، بل سجل أمين للأحداث والقرارات والاختيارات التي صنعت التاريخ. التحدي الحقيقي في تطوير أدواتها لا في التخلي عنها".
وعن الغاية النهائية من كتابه، اختصر فراج الهدف بقوله: "لم أكتب لأكسب شيرًا، ولا لإثارة مشاعر عابرة؛ بل خرجت هذه السطور من رحم الحقيقة، تحترم الألم دون أن تتاجر به، وتحتفي بالإنسان دون أن تستنزفه".
"سطور الوجع" لا يروّج للحزن، بل يحترم أثره. إنه دعوة للتأمل في أرشيف قديم، لا تزال أوراقه تضيء الحكايات التي لم تنتهِ، وتُذكّرنا أن خلف كل نجمٍ غابت صورته، بقيت قصة تنتظر من يقرؤها بصدق.
aXA6IDMuMTQ0LjI4LjE2NiA= جزيرة ام اند امز