آفاق العلاقات الإماراتية-الأمريكية في ظل بيئة استراتيجية جديدة
قالت الدكتورة ابتسام الكتبي، رئيسة مركز الإمارات للسياسات، إنه من الواضح أن الحرب في أوكرانيا أبرزت حالة التوتر في العلاقات الأمريكية-الإماراتية.
وأضافت، في مُحاضرةٌ ضمن إطار سلسلة "محاضرات مفكرو الإمارات"، والتي أقيمت في قاعة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بمقر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأبوظبي، مساء الأربعاء: "ظهر بوضوح أن هناك تبايناً في المصالح والأولويات بشأن إمدادات الطاقة وأسعارها وحجم الإنتاج المتعلق بالمراهنة الأمريكية على أن تقوم الإمارات بالمساعدة في سدّ بعض النقص في إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، بعد فرض العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا على وَقْع الحرب الأوكرانية".
الموقف الإماراتي في الأزمة الأوكرانية
وحول واقع العلاقات الإماراتية الأمريكية، قالت الدكتورة ابتسام الكتبي إنه من المهم، بدايةً، أن نُضيء على موقف دولة الإمارات إزاء ما يجري في أوكرانيا؛ حيث إن هذه الأزمة كانت عاملاً مهمّاً في إبراز حالة عدم التقارب في وجهات النظر بين الإمارات والولايات المتحدة، واختلاف مصالحهما وأولوياتهما في بعض الملفات. وهنا يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1- في إطار مصالحها الوطنية وسياستها المستقلة، أكدت دولة الإمارات التزامها باتفاق "أوبك بلس" مع روسيا والدول الأخرى، ورفضت حتى الآن زيادة الإنتاج بأقصى طاقة، ودعت إلى إبعاد ملف الطاقة هذا عن السياسة والاستقطابات الدولية، وركّزت على أهمية الخضوع لمعادلات السوق في العرض والطلب.
2- حاولت الإمارات أن تتجنَّب حالة الاستقطاب بين القوى العالمية الكبرى، وامتنعت عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار يُدين ما سمّاه القرار "الغزو الروسي لأوكرانيا"، برغم أنها عادت وأيدت في الجمعية العامة للأمم المتحدة إدانة التدخل الروسي في أوكرانيا. وحصدت الإمارات ثمرة موقفها المتوازن تصويت موسكو في مجلس الأمن الدولي لصالح حظر وصول الأسلحة للحوثيين في اليمن، ووصفهم من قبل المجلس بـ"حركة إرهابية".
3- ظلَّت الإمارات تدعو إلى ضرورة تخفيف التوتر بين روسيا وأوكرانيا، وتسعى لدعم الحلول الدبلوماسية للأزمة وتشجيع جهود الوساطة وإنهاء الحرب.
4- بقيت الإمارات على علاقة وتواصل مع جميع أطراف الأزمة، ولم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أي جانب.
5- قدَّمت الإمارات مساعدات إنسانية للنازحين والعالقين في مناطق الصراع، وسهّلت دخول الأوكرانيين إلى أراضيها.
تراكُم التوتر في العلاقات الإماراتية-الأمريكية
وأوضحت الدكتورة ابتسام الكتبي، أن مسألة الموقف من التدخل الروسي في أوكرانيا، وطبيعة الاستجابة للعقوبات الغربية على موسكو، فضلاً عن مسألة إمدادات الطاقة الروسية والمراهنة الأمريكية على دور إماراتي في سد النقص وخفض الأسعار ليست وحدها العوامل التي تعكس اختلاف المصالح والأولويات بين أبوظبي وواشنطن، بل هناك في الحقيقة مجموعة من العوامل المتراكمة التي شكّلت هذا التوتر.
وأشارت إلى أن من أبرز هذه العوامل عدم اليقين بشأن استمرار التزام واشنطن بالأمن الإقليمي؛ فمع مجيء إدارة الرئيس جو بايدن، ظهر أن هناك فتوراً أو سوء فهم وعدم تقارب في المصالح والأولويات الإماراتية والأمريكية، حيال قضايا المنطقة على وجه الخصوص (مثل التعامل مع التحدي الإيراني، وهجمات المليشيات المتحالفة مع إيران).
وتابعت: "كان ثمة تقدير بأن واشنطن لم تتعامل بشكل مقبول مع الاعتداءات الحوثية على الإمارات، وشعرت الإمارات بخيبة أمل من تأخُّر الاستجابة الأمريكية وعدم كفايتها، وبالتالي تركيز واشنطن فقط على العودة للاتفاق النووي مع إيران دون معالجة مسائل التهديد الصاروخي وطائرات الدرونز من طرف إيران والمليشيات الحليفة لها. لقد أزالت إدارة بايدن اسم جماعة "الحوثيين" في اليمن من قائمة التنظيمات الإرهابية، ولم تستجب واشنطن لطلب الإمارات، بعد هجمات الحوثيين الإرهابية عليها، إعادة تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية".
الانتخابات الأمريكية وتجاوز إرث ترمب
وعن الانتخابات الأمريكية وتجاوز إرث ترامب، قالت الكتبي، لقد ظهر أن بعض البرود في العلاقات مرتبط بسياق سياسة الانتخابات الأمريكية على ضوء قرار بايدن مناهضة نهج سلفه ترمب. لقد قرر بايدن عن قصد تغيير نهج السياسة الخارجية التي تبنَّاها ترمب، والمتمثلة بدعم قادة السعودية، ومصر، وتركيا، ودولة الإمارات، وحتى إسرائيل (طالما ظل رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو في السلطة). وتضع إدارة بايدن هذا التحول تحت عنوان "تبنّي الديمقراطية في السياسة الخارجية".
تبايُن الموقف والمصالح بين الولايات المتحدة والإمارات إزاء العلاقات مع الصين وروسيا
وأشارت الدكتورة ابتسام الكتبي إلى أن التباين ظهر بشأن أزمة أوكرانيا وملف الطاقة، كما ظهر في موضوع استخدام الإمارات لتقنيات الـ(5G) الصينية، والاندماج الإماراتي في مبادرة "الحزام والطريق".
السيناريوهات المحتملة لإدارة التوتر الحالي
وقالت د. ابتسام الكتبي إنه في سياق الحالة القائمة، يمكن وضع سيناريوهات محتملة للتعامل مع التوتر الحالي في العلاقات الإماراتية-الأمريكية، وهي كالتالي:
1- سيناريو استمرار الوضع الراهن
يُبيّن هذا السيناريو أن الخطوات التي اتخذتها واشنطن لطمأنة الإمارات بشأن احتواء التحدي الإيراني والمليشياوي المتعلق بالصواريخ والطائرات المسيّرة هي خطوات غير كافية، وأن هناك حالة عدم يقين بشأن الالتزام الأمريكي بأمن الحلفاء وأمن المنطقة. ولعلَّ جولة الوزير بلينكن ولقاءاته في النقب والمغرب تدل على حرص الولايات المتحدة على طمأنة شركائها في المنطقة. كما أفادت التقارير بأن وزير الخارجية الأمريكية بلينكن اعتذر لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان عن تأخر الردّ الأمريكي على الهجمات الإرهابية الحوثية على الأراضي الإماراتية. وصرّح السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، بأن لقاء بلينكن بالشيخ محمد بن زايد خفف من التوتر بين البلدين، وخلق بعض الأجواء الإيجابية. وورد أيضاً أن إدارة بايدن تراجعت عن فكرة شطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية.
لكن هذا السيناريو يُبيّن أن الولايات المتحدة تُقدّم تطمينات، ولا تقدّم ضمانات حقيقية ملموسة ومُلزِمة تعالج المسائل الدفاعية الإماراتية، أو مسائل مراعاة الإمارات في سياستها الوطنية المستقلة بخصوص تنويع الشراكات مع القوى الدولية الكبرى (تحديداً الصين وروسيا).
وفي المحصلة، يعني هذا السيناريو أن جولة بلينكن والرسائل الأمريكية الودية تجاه الإمارات لم تُفضِ في الحقيقة إلى خلق استجابة أمريكية عملية لمطالب الإمارات، وأن الموقف الأمريكي يبقى غامضاً ويُثير القلق، وأن واشنطن لا تزال تكتفي بالتطمينات والخطوات الجزئية وإدارة الأزمة بين إيران والمليشيات المتحالفة معها من جهة ودول الخليج من جهة ثانية، وأن الولايات المتحدة ستستمر في تحذير الشركاء الخليجيين من التقرّب من بكين وموسكو.
2- سيناريو توسيع الإطار الاستراتيجي للعلاقات وتعميقه وإعادة تعريف العلاقات
يشير هذا السيناريو، وهو الأكثر ترجيحاً، إلى أن البديل الأكثر واقعية للتوتر الحالي في العلاقات الإماراتية-الأمريكية هو أن يتوصّل الطرفان-في سياق حوار استراتيجي رسمي وغير رسمي عميق بينهما-إلى إطار استراتيجي جديد للعلاقات يسعى لتعميقها وإعادة تعريفها؛ بما ينسجم مع المتغيرات المتسارعة، ومع البيئة الاستراتيجية الجديدة على المستويين الإقليمي والدولي.
فهو، إذن، إطار دفاع استراتيجي جديد وليس تحالفاً رسمياً، ويُمثِّل آلية موثوقة للارتقاء بالشراكة الأمنية بطرق تعيد تأكيد المبادئ الأساسية، ووضع أهداف واضحة وقابلة للتحقيق للعلاقة الدفاعية الثنائية أو متعددة الأطراف، كما يؤكد الخبراء. وهذا الإطار الاستراتيجي مِن المتصوَّر أن يَشمَل الآتي:
إقامة فريق عمل مشترك بين الإمارات والولايات المتحدة لمواجهة تهديد الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة.
زيادة التواصل المؤسسي بين الحكومتين، والارتقاء بنوعية القدرات العسكرية الإماراتية.
التوجّه نحو تطوير القدرات المؤسسية الأمنية والعسكرية الإماراتية لمواجهة التهديدات بقدرة ذاتية أكبر.
تزويد الإمارات في الوقت المناسب بمعلومات عن الأنشطة التي قد تكون مقدمة لهجمات مستقبلية، والتحذير من شن تلك الهجمات، وقد يساعد في تحقيق ذلك بشكل مستدام وجود نظام إنذار مبكر، وتزويد الإمارات من قبل الولايات المتحدة بطائرات من دون طيار من طراز Predator وغيرها من الأصول التي من شأنها أن توفر معلومات استخبارية مستمرة وعالية الجودة، وبالتالي التحذير من الهجمات المخطط لها أو الوشيكة على الأفراد والقواعد الأمريكية أو تلك الخاصة بالمنشآت والبُنى التحتية الإماراتية.
وقد يشمل هذا السيناريو إعادة تفعيل المشاورات الخاصة بتزويد الإمارات بطائرات إف-35
3- سيناريو إبرام معاهدة دفاعية ثنائية
فقد أعربت الإمارات عن رغبتها في الوصول إلى ضمان أمني أكثر رسمية من جانب الولايات المتحدة، على غرار المعاهدات الدفاعية الرسمية التي تربط الولايات المتحدة مع دول حلف "الناتو" وحلفاء آخرين يتمتعون بمثل هذه المعاهدات الدفاعية مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
غير أن الجانب الأمريكي، على ما يبدو، يرى صعوبة ذلك حالياً؛ لسببين، على الأقل: أولهما، أنه يحتاج موافقة ثلثي أعضاء الكونجرس الأمريكي، وهو أمر صعب حالياً في ظل الانقسام الحزبي الكبير في الداخل الأمريكي. والثاني، أن أي معاهدة دفاعية مع الإمارات، حسب الموقف الأمريكي غير الرسمي، تتطلب وجود بنية شاملة للتعاون الأمني، وبنية تحتية ومؤسسية غير متوافرة حالياً.
4- سيناريو إقامة مظلة دفاعية إقليمية
لقد فتحت الاتفاقيات الإبراهيمية المجال للحديث عن هذا السيناريو، الذي يَلفت الأنظار إلى ما تتداوله تقارير إعلامية أو تقارير صادرة عن مراكز أبحاث تتحدث، بشكل غير رسمي، عن أن إسرائيل تتعاون مع حلفاء في الشرق الأوسط لبناء "نظام دفاع مشترك" لمواجهة الصواريخ والطائرات من دون طيار الإيرانية. ومَنْ يتناول هذا السيناريو يرى أنه يأتي على غرار التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (MESA) الذي اقترحته إدارة الرئيس دونالد ترمب، وأن هذا المقترح الافتراضي يقتضي تشكيل التحالف على منوال منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويُوضِّح هذا السيناريو أن المظلة الدفاعية الإقليمية المفترضة ستركّز على بناء الدفاعات الجوية المشتركة، وأن ذلك مِنْ شأنه أن يُمهِّد الطريق لتبادل المعلومات الاستخباراتية والخطط العملياتية العسكرية لمنع الهجمات. وهناك من يرى أن لدى القيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم" فرصة لإشراك دول الخليج العربية، إلى جانب إسرائيل، على الأقل في بعض عمليات التخطيط الاستراتيجي لدمج أسلحتهم الأكثر قوة والاستفادة منها.
ويجري في هذا السيناريو ملاحظة أن العناصر طويلة المدى لإطار الدفاع الاستراتيجي الأمريكي الخليجي هي الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل -وهي مسؤولية جماعية في المنطقة تتطلب، أولاً وقبل كل شيء، الثقة بين المشاركين الخليجيين لإنشاء أنظمة إنذار مبكر مشتركة - والالتزام من قبل الولايات المتحدة لمساعدة شركائها العرب في الخليج على متابعة الإصلاحات الدفاعية اللازمة لتطوير قدرة عسكرية فعالة. وهذا يعني، بحسب الخبراء، الاستثمار في بناء القدرات المؤسسية، بدلاً من التركيز على مبيعات الأسلحة والحلول التكتيكية للمشاكل القديمة.
الخلاصة والاستنتاجات
وأوضحت د. ابتسام الكتبي، أن الأزمة الأوكرانية أعادت الأهمية الاستراتيجية لدول الخليج، ودورها المؤثّر على الساحة العالمية في أمن الطاقة وتنافسات القوى العالمية الكبرى. وتُقدّم الأزمة الأوكرانية فرصة لإعادة تعريف العلاقات الإماراتية-الأمريكية، وطرح مقاربات جديدة لتعميق الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات وأمريكا وتطويرها، واحتواء عوامل التوتر، والسَّير باتجاه مأسستها، بما يُسهم في تأمين وتوسيع المصالح المشتركة بين البلدين، وتطوير القدرات الدفاعية الإماراتية وقدرتها على مواجهة التحديات والتهديدات بكفاية عالية، بما يحفظ المصالح العليا لدولة الإمارات، وينتقل بالشراكة الجيو-أمنية مع واشنطن إلى حقبة جديدة تتلاءم مع المتغيرات المتسارعة في النظامين الإقليمي والدولي.
aXA6IDE4LjE4OC4xODMuMjEg
جزيرة ام اند امز