المقربون من الرجل يروون عنه أنه كان قارئاً نهماً للتاريخ والآداب، وعاشقاً للبحر والصيد والفنون التشكيلية
بوفاة السلطان قابوس تغلق ملفات وتفتح ملفات جديدة في المنطقة.
لم يكن السلطان قابوس بن سعيد (1940 - 2020)، الذي حكم بلاده نصف قرن من الزمان، شخصية تقليدية في نظام حكمه، في توجهاته، في سياساته الداخلية والإقليمية.
برحيل السلطان قابوس يكون قد انتهى الآباء المؤسسون لمجلس التعاون الخليجي، ولم يعد منهم بعده من هو في دنيانا هذه.
رغم أن عائلته «البوسعيد» التي تولت ثم توارثت تقاليد الحكم في عمان منذ عام 1744م إلا أن حاكمها الأخير استطاع لمدة نصف قرن أن يرسم سياستها بشكل جديد وجذري وحديث:
1- أقام السلطان حكماً كان ينتمي إلى قرون سابقة عصريًّا فحوّل السلطات فيه من حكم رجل واحد وحيد إلى وجود السلطات التالية:
أ- المجلس الأعلى التشريعي (البرلمان).
ب- المجلس الأدنى التشريعي (مجلس الشورى).
جـ- مجلس وزراء عصري.
د- دعم الحكم المحلي في المناطق المختلفة بحيث يتم تفعيل دور الإدارة المحلية في تسيير شؤون البلاد والعباد.
وجعل البلاد تحتل المركز رقم 64 في اقتصادات العالم.
2- فتح البلاد على العالم أجمع، وفتح الباب للاستثمار، وأقام سوقاً مالية نشطة، وطور إمكانيات طبيعة البلاد الجذابة إلى أن تصبح مقصداً سياحياً، وقدّم لشعبه فرص عمل، وجعل الدولة داعمة للمزارعين والصناعات الوطنية، وخفّض معدل البطالة، وأصبح معدل التضخم 1٪، ووصلت موازنة البلاد إلى 200 مليار دولار، ووصل دخل الفرد إلى 47 ألف دولار سنوياً.
3- أقام في البلاد دولة انضباط واستقرار بعدما احتوى في بداية حكمه الثورة في «إقليم ظفار»، وصالح الجميع على الجميع، ونزع التوجهات القبلية، ومنع تماماً أي توجهات مذهبية بين المذهب «الإباضي»، الذي تنتمي إليه الأقلية، وبقية المذاهب الأخرى، بل إنه منع أن تكون هناك مساجد على أسس طائفية أو مذهبية، بمعنى أن المسجد دار عبادة للجميع.
انفتح السلطان، الدارس في بريطانيا في كلية ساند هيرست الشهيرة، ثم الدارس للإدارة في ألمانيا، والشريعة والقانون في «مسقط»، على الثقافات والفنون، وجعل من بلاده مقصداً ثقافياً راقياً، وأنشأ دار الأوبرا السلطانية، وجعل ختام الإرسال اليومي للتليفزيون العماني فيه وجبة موسيقية لكبرى المعزوفات الكلاسيكية الراقية لعازفي الأوبرا العمانية.
المقربون من الرجل يروون عنه أنه كان قارئاً نهماً للتاريخ والآداب، ومن حفظة أهم أعمال روايات ويليام شكسبير ويتقنها باللغة الإنجليزية، وعاشقاً للبحر والصيد والفنون التشكيلية.
هذه المكونات الفريدة شكلت أفكار وخيارات الرجل التي صبغت سياساته ومواقفه على مدى نصف قرن والتي تأثر فيها بالنموذج البريطاني في الحياة، حتى إنه أعطى الإدارة البريطانية دوراً استشارياً كبيراً في بلاده.
لذلك كانت عمان في عهد «قابوس» حالة خاصة في محيطها الخليجي، والعربي، والعالمي.
مثلاً: منذ يومه الأول أوضح «قابوس» لكل قادة دول الخليج أنه يحترم بشدة علاقاته بهم وأهميتها الاستراتيجية لبلاده، لكنه كان ذلك الرجل الذي يتخذ مواقف وقرارات خاصة بمصالح بلاده حتى لو لم تتفق أو تتطابق مع أشقائه القادة.
كان معروفاً عن «قابوس» -رحمه الله- وسط زعماء الخليج «أنك قد تختلف مع ما يقول لكنك كن على ثقة بأن ما قاله لك هو -صدقاً- ما يؤمن به، وما سيفعله».
عرف عنه أشقاؤه من قادة المنطقة أنه ذلك الرجل الذي يقول ما يفعل، ويفعل ما يقول.
لذلك لم يكن غريباً عليه أن يكون الحاكم الخليجي الوحيد الذي يخالف إرادة الرئيس صدام حسين في مؤتمر بغداد الشهير، ويرفض مقاطعة مصر بعد اتفاق كامب ديفيد.
في الوقت ذاته، كان هو الوسيط ومعبر الجسر لنقل صواريخ مصرية وافق على بيعها الرئيس أنور السادات للعراق في ذروة حربها ضد إيران، مما كان له أعظم الأثر في حسم المعارك النهائية مع الجيش الإيراني.
اختار السلطان قابوس أن تكون لديه جسور مفتوحة مع العراق وإيران، ومع السعودية وإيران، وأن يكون عضواً في مجلس التعاون الخليجي وقنواته مفتوحة مع «الرياض» و«أبوظبي» من ناحية، ومع «الدوحة» من ناحية أخرى.
اختار السلطان قابوس أن ينفتح ناحية المحيط الهندي مع الهند، مع احتفاظه بعلاقات قوية مع باكستان.
واختار أن تكون لديه علاقات تعاون مع قوات التحالف العربي في اليمن، ومع الحوثيين في آن واحد.
وكان السلطان هو الزعيم الذي لم يلتق سراً مع قادة إسرائيل، بل استقبلهم جميعاً علناً أمام العالم والإعلام بدءاً من «بريز» وصولاً لـ«نتنياهو» وزوجته منذ أكثر من شهر في قصره بـ«مسقط».
جعل «قابوس» من «مسقط» مركز اتصالات خلفياً بين معظم أعداء المنطقة، فكانت عاصمته هي مركز لقاءات الإيرانيين والأمريكيين، وزعماء عرب والإسرائيليين، والقطريين وخصوم لهم.
هنا نسأل: لماذا اختار السلطان قابوس هذا الدور الخاص والمتميز والصعب في الوقت ذاته؟
الإجابة عن هذا السؤال تأتي بالتمعن والتدقيق في موقع عمان الجغرافي الذي يفرض عليها وعلى كل من يحكمها أن يراعي اعتبارات تفرضها الحدود والسواحل والمنافذ الاستراتيجية:
تقع عمان في غرب آسيا، وهي منطقة كبيرة في المساحة، حيث إنها الثالثة من ناحية الاتساع في الجزيرة العربية، حيث تبلغ مساحتها 309.500 كم مربع، وتمتد سواحلها 3165 كم من مضيق هرمز في الشمال وحتى الحدود مع اليمن.
وتأتى الميزة الاستراتيجية ومبعث المشاكل في آن واحد هي أنها تطل على 3 بحار في الوقت ذاته: بحر العرب، بحر عمان، الخليج العربي.
واكتشف السلطان قابوس من يوم حكمه أن تأثير الحدود الجغرافية مع الجيران هو العنصر الحاكم والأكثر تأثيراً على اتجاهات السياسة والمصالح في «مسقط»، فبلاده تحدها دولة الإمارات من ناحية الغرب بمساحة 410 كم، والسعودية بـ676 كم، واليمن بـ288 كم جنوباً، ومن الشمال يأتي مضيق هرمز، ومن الشرق بحر العرب.
باختصار سلطنة عمان موقعها فريد ومتميز وخطر!
توفي السلطان قابوس بعد صراع طويل مع «سرطان القولون»، لذلك أدرك الرجل، بشعور من المسؤولية، وفهم عميق للتاريخ، أن الانتقال السلس للسلطة هو ضمانة استقرار واستمرار الدول والحضارات.
لذلك قام بإيداع رسالة رسمية يحدد فيها أسلوب انتقال الحكم عقب وفاته حسب النظام والعرف، ويعطي فيه مهلة لسلطة البيعة باختيار من يخلفه، فإذا تعذر ذلك بعد 3 أيام من وفاته يتم فتح رسالة يرسّم فيها خليفته للحكم، ويكون ذلك أمراً ملزماً.
إذاً استطاع الرجل أن يقدم صيغة متميزة تجمع بين «الشورى» من ناحية واحترام الحق في التوريث من ناحية أخرى.
اضطر السلطان قابوس إلى هذه الصيغة لأن الحياة لم تهبه أي ذرية ولم تهبه شقيقاً من الذكور، بل كانت لديه شقيقة واحدة هي السيدة أميمة.
بقي في عائلته أعمامه: طارق وماجد وفهر وشبيب وصهيب بن تيمور، وهؤلاء لهم الحق هم أو أبناؤهم في أن يلوا العرش من بعده بناء على نصوص الدستور المسمّى بالكتاب الأبيض، وبناء على ذلك تمت تسمية وتولية السلطان هيثم بن طارق بن تيمور السلطان العاشر لعمان.
وهؤلاء تقريباً هم القوى النافذة التي سيكون لديها تأثير في رسم خطوط الحاضر والمستقبل.
برحيل السلطان قابوس، يكون قد انتهى الآباء المؤسسون لمجلس التعاون الخليجي، ولم يعد منهم بعده من هو في دنيانا هذه.
وبرحيل السلطان قابوس، رحل حاكم اختار لنفسه ولبلاده سياسة خاصة مهما اتفقت أو اختلفت معها فهي واضحة وشفافة، واستطاعت أن تبنى بلداً عصرياً في حياته، وأن تحدث انتقالاً سلساً وسلمياً للسلطة فور وفاته.
رحم الله السلطان قابوس.
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة