الاتفاق الأمريكي-الياباني.. طريق طويل للمفاوضات التجارية الثنائية
يمثل الاتفاق فرصة أمام الولايات المتحدة لإكمال الاتفاقيات التجارية مع بلدان أخرى، مما سيحفز النمو الاقتصادي على جانبي المحيط الهادي
تعد الولايات المتحدة الأمريكية واليابان من أنجح الديمقراطيات وأكبر القوى الاقتصادية على مستوى العالم، فهما تساهمان بنحو 30% في الاقتصاد العالمي (الناتج المحلي العالمي) لاستحواذهما على النصيب الأكبر من التجارة الدولية، سواء السلع أو الخدمات، وكذلك مساهمتهما بنسبة كبيرة في الاستثمار العالمي.
وقد أدى هذا النفوذ الاقتصادي إلى أن تصبح كلا من الولايات المتحدة واليابان من القوى الفاعلة في الاقتصاد العالمي، بما يؤثر على العالم بأسره، علاوة على ذلك يمكن أن تؤثر العلاقات الاقتصادية الثنائية بين الولايات المتحدة واليابان على الظروف الاقتصادية في البلدان الأخرى، وعلى سلاسل الإمدادات العالمية، وعلى المستوى السياسي يعد التحالف الأمريكي الياباني حجر الزاوية للمصالح الأمنية الأمريكية في آسيا، وهو أساسي لتحقيق الاستقرار والازدهار الإقليمي.
ونظرا لكون اليابان رابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة الأمريكية فإنها تحظى منذ فترة بأولوية من جانب الولايات المتحدة للدخول في مفاوضات تجارية، ويأتي ذلك خاصة بعد قيام اليابان إبرام عدد من الاتفاقيات التجارية مع عدد من البلدان كاتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وخفض التعريفة الجمركية على واردات من العديد من البلدان، وكذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادي، مما انعكس بالسلب على مصدري الولايات المتحدة، وقد جاء هذا الاتفاق إثر الضغوط التي تعرض لها الرئيس ترامب من جانب المزارعين الأمريكيين الذين فقدوا حصتهم في السوق أمام منافسين من الاتحاد الأوروبي ودول المحيط الهادي، والذين يمثلون قاعدة جماهيرية ضخمة لا يمكن الاستهانة بها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كما أن هذا الاتفاق من شأنه أن يقلل العجز التجاري الثنائي مع اليابان، ويعمق العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
من ناحية أخرى، برزت حاجة الولايات المتحدة لعقد اتفاق تجاري مع اليابان، خاصة بعد قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشن حرب تجارية ضد الصين في عام 2018 من خلال فرض رسوم جمركية على السلع الصينية، مما دفع الحكومة الصينية إلى فرض رسوم جمركية على أكثر من 128 منتجا أمريكيا، ويفرض هذا الاتفاق نوعا من الضغط على العلاقات الأمريكية الصينية، حيث إن توقيع اتفاق تجاري بين واشنطن وطوكيو قد يعرقل الجهود الرامية لحل الحرب التجارية الأمريكية الصينية، لأنه قد يعزز محاولات الولايات المتحدة لإجبار بكين على قبول مطالبها.
وعلى الجانب الآخر، هناك تخوفات من جانب اليابان بأن يبدأ الاتحاد الأوروبي مفاوضات تجارية ثنائية مع واشنطن قبل اليابان، مما أثار قلقها من رفع التعريفة الجمركية على السيارات، أكبر صادرات اليابان إلى الولايات المتحدة ومصدر رئيسي للعجز التجاري الأمريكي، وقد أدت تلك الضغوط إلى سعى اليابان إلى تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة التي تعتبر ضرورة لمواجهة التحديات الاستراتيجية من الصين وكوريا الشمالية، وعليه تم تسوية توقيت محادثات الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة واليابان.
وبالفعل عقدت الولايات المتحدة واليابان الجولة الأولى من المفاوضات حول اتفاق التجارة الثنائية بين البلدين في أبريل 2019، وفي 25 سبتمبر 2019 وقع دونالد ترامب اتفاقا جزئيا مع شينزو آبي رئيس الوزراء الياباني، ليكون بمثابة صفقة تجارية متعددة الأقطار، من شأنها تقليل الحواجز التجارية مع اليابان، وتحرير التجارة بين البلدين، وتتطلع الولايات المتحدة إلى مزيد من المفاوضات مع اليابان للتوصل إلى اتفاق شامل يواجه الحواجز الجمركية وغير الجمركية المتبقية، بما في ذلك الخدمات وحماية الملكية الفكرية والحواجز التنظيمية أمام التجارة، بهدف الوصول إلى تبادل تجاري أكثر عدلاً وتوازناً.
- المحادثات الثنائية: تحرير الأسواق بين الولايات المتحدة واليابان
في إطار الاتفاق التجاري بين البلدين تقوم اليابان بإلغاء أو خفض التعريفات الجمركية على بعض المنتجات الزراعية والصناعية الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك ستقدم اليابان حصصا تفضيلية خاصة بالولايات المتحدة، وبمجرد دخول تلك الاتفاقية حيذ التنفيذ سيتم إعفاء أكثر من 90% من المنتجات الغذائية والزراعية الأمريكية المصدرة إلى اليابان من الرسوم الجمركية، مثل منتجات لحوم البقر ولحم الخنزير المباعة إلى اليابان، أما بالنسبة للقمح فإنه ما زال يخضع لحصة تقيد حجم الواردات من القمح ومنتجاته المصدرة من الولايات المتحدة، كما سيتم إلغاء التعريفة الجمركية على بعض المنتجات بما في ذلك اللوز والتوت والبروكلي التي تدخل اليابان، وتعد هذه الصفقة جزءا من اتفاقية تجارية أوسع تهدف إلى فتح أسواق جديدة في اليابان أمام 7 مليارات دولار من المنتجات الأمريكية.
وعلى الجانب الآخر، تمكنت طوكيو من الحصول على تخفيض في الرسوم الجمركية على بعض السلع الصناعية المصدرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك الأدوات الآلية والدراجات والتوربينات والآلات الموسيقية، وكذلك على بعض المنتجات الزراعية بما في ذلك الشاي الأخضر والبرسيمون وصلصة الصويا وزهور الزينة، وبالنسبة لواردات السيارات اليابانية لم يتضمن نص الاتفاقية أي ضمانات صريحة بأن الرئيس الأمريكي لن يفرض تعريفة جمركية عليها بموجب المادة 232 من قانون التوسع التجاري، إلا أن اليابان كانت حريصة على عدم فرض رسم 25% على السيارات المستوردة، وهو أمر حيوي لصناعة السيارات اليابانية، ثاني أكبر مصدر للسيارات المستوردة في أمريكا بعد المكسيك.
ويتيح هذا الاتفاق آفاقا جديدة للتجارة الرقمية، حيث وضعت الولايات المتحدة واليابان إطاراً اشتمل على تجارة رقمية بقيمة 40 مليار دولار بين البلدين، مما سينعكس بالإيجاب على شركات التكنولوجيا والعاملين بالاقتصاد الرقمي، فقد تضمن الاتفاق إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات الإلكترونية مثل الكتب الإلكترونية والبرامج، كما أنه يضمن التدفق الحر للبيانات عبر الحدود، ويتطلع الجانبان إلى بذل مزيد من الجهد لضمان إدراج بقية إطار التجارة الرقمية، بما في ذلك حماية الملكية الفكرية والمشتريات الحكومية لمنتجات التكنولوجيا، ضمن اتفاقية التجارة الحرة الكاملة.
ومن الواضح أن اليابان تضع أولوية لضمان توافق أي اتفاق مبرم مع قواعد منظمة التجارة العالمية، التي تتطلب إبرام اتفاقيات تجارية ثنائية وإقليمية، وفي هذا السياق قاومت طوكيو أن يتضمن الاتفاق معالجة الحواجز الزراعية فقط، حيث إن إبرام اتفاقية تشمل الجانب الزراعي فقط ستكون عملية بيع خاسرة بالنسبة للجانب الياباني، نظرا لأن اليابان مستوردة صافية للمنتجات الزراعية، وأن مثل هذا الاتفاق سيكون اتفاقا من جانب واحد لصالح الولايات المتحدة.
ويرى المحللون أن ترامب قد لا يخضع لمزيد من التنازلات مع اليابان في المرحلة الأخيرة من المفاوضات، لأنه يواجه قضايا أكثر إلحاحا، مثل النزاع التجاري الطويل مع الصين، والمحادثات التجارية الصعبة مع الاتحاد الأوروبي، والتوترات المتزايدة مع إيران بعد الهجوم على المملكة العربية السعودية.
- الانعكاسات الاقتصادية: التجارة البينية بين البلدين
تعد اليابان ثالث أكبر اقتصاد في العالم، ورابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، كما أنها تعد ثاني أكبر شريك استثماري للولايات المتحدة، وأكبر مالك أجنبي لديون الحكومة الأمريكية، ويمكن القول إن العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة واليابان علاقة ذات منفعة متبادلة، من خلال التبادل التجاري بين تلك الأسواق الكبرى أو عبر تدفقات رأس المال.
وبالنظر إلى التجارة البينية، بلغ إجمالي الصادرات الأمريكية إلى اليابان في عام 2018 نحو 121.1 مليار دولار، وبلغت الصادرات السلعية نحو 75.7 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات الخدمية 45.4 مليار دولار، أما بالنسبة للواردات الأمريكية فبلغت نحو 179.1 مليار دولار، استحوذت البضائع على النصيب الأكبر منها (144.6 مليار دولار) ، وأبرزها السيارات والمركبات وقطع الغيار، وقد بلغ حجم العجز التجاري للسلع 67.6 مليار دولار، ويعزى عديد من الخبراء أن هذا العجز يرجع إلى الحواجز الجمركية التي تفرضها السوق اليابانية على السلع والخدمات الأمريكية.
ووفقا لمكتب الإحصاءات الأمريكية، ارتفع حجم الصادرات الأمريكية من السلع إلى اليابان بنسبة 2.6% لتصل إلى نحو 43.4 مليار دولار خلال الفترة يناير-يوليو من عام 2019، مقارنة بنحو 42.3 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق، بينما بلغت الواردات نحو 85.8 مليار دولار خلال الفترة نفسها مقارنة بنحو 82 مليار دولار في عام 2018، لتحقق ارتفاعا بنسبة 4.6% على أساس سنوي، وقد انعكست تلك الإحصاءات على العجز التجاري الأمريكي الذي حقق انخفاضا بنسبة 6.7% في السبعة شهور الأولى من عام 2019، ليصل بذلك إلى 42.4 مليار دولار.
أما بالنسبة للميزان التجاري الياباني، فقد ارتفع الفائض التجاري الياباني مع الولايات المتحدة لأكثر من 15% في يوليو 2019 على أساس سنوي، وفقاً لبيانات وزارة المال اليابانية، حيث بلغ 579.5 مليار ين (5.5 مليار دولار). وارتفعت واردات اليابان من الولايات المتحدة بنسبة 3.5%، ويأتي في مقدمتها الطائرات والنفط الخام، بينما سجلت الصادرات اليابانية ارتفاعاً بنسبة 8.4% تتقدمها معدات صناعة الشرائح ومعدات البناء.
وعلى صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر، بلغت قيمة مخزون الاستثمار المباشر للولايات المتحدة في اليابان نحو 125.5 مليار دولار في عام 2018، لتستحوذ بذلك على 22.8% من إجمالي مخزون الاستثمار المباشر للولايات المتحدة، وتركزت تلك الاستثمارات في قطاع التمويل والتأمين، في حين بلغ إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الياباني في الولايات المتحدة 484.4 مليار دولار، لتمثل بذلك 11.8% من إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الياباني في الولايات المتحدة، وقد استحوذ قطاع الصناعة على أكبر حصة من تلك الاستثمارات.
ووفقا لبعض الاقتصاديين، من المتوقع أن يواجه الاقتصاد الياباني مخاطر سلبية جزئيا، بسبب الحرب التجارية الأمريكية الصينية، حيث تخطط واشنطن لرفع التعريفة الحالية بنسبة 25% إلى 30% على بعض المنتجات الصينية، كما هددت بفرض رسوم جديدة على البضائع الصينية، ومن ثم ستشعر الشركات اليابانية الرائدة العاملة في الصين بالتأثير المباشر للعقوبات الأمريكية، كما أنه من المتوقع أن ينعكس النمو الاقتصادي البطيء في الصين والولايات المتحدة بالسلب على الاقتصاد الياباني.
وعلى الرغم من ذلك، من المنتظر أن يفتح هذا الاتفاق آفاقا لعدد من الاتفاقيات مع عديد من الدول، حيث يمثل فرصة أمام الولايات المتحدة لإكمال الاتفاقيات التجارية مع الهند والصين وكندا والمكسيك وبلدان أخرى، مما سيحفز النمو الاقتصادي على جانبي المحيط الهادي.
aXA6IDM1LjE3MS4xNjQuNzcg
جزيرة ام اند امز