أفريقيا بعد قائد فاغنر.. هل يبعثر الغياب حسابات النفوذ؟
آخر رسائله كانت من أمام أرض أفريقية جرداء، هناك حيث بدا وكأنه يتطلع لتعويض نكسته في روسيا بنفوذ أكبر بالقارة السمراء.
يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر الذي قضى مساء الأربعاء في حادثة تحطم طائرة قرب العاصمة الروسية موسكو. يغادر الحياة فجأة مخلفا أكثر من سؤال.
اختار بريغوجين أفريقيا لتكون الأرض التي يبث من خلالها رسالة مصورة، ربما ليعزز مزيدا من الحضور في القارة السمراء، ولم يكن يدري أنها ستكون آخر رسائله على الإطلاق، ما منح المكان رمزية مضاعفة.
ظهر ممتشقا بندقيته ومرتديا زيه العسكري الكامل في أرض أفريقية جرداء، وقال إنه يقوم بتجنيد رجال أقوياء يقومون بالمهام التي حددتها روسيا "لنجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وأفريقيا أكثر حرية.. لنجعل الحياة كابوسا على داعش والقاعدة والآخرين".
لكن مع رحيل الرجل الذي أمضى نحو عقد في بناء فاغنر ومنحها عصارة خبرات المجرم ورجل الأعمال، يتفجر السؤال حول مستقبل المجموعة خصوصا في الدول الأفريقية التي تتواجد فيها أو تخطط لدخولها.
من التمرد إلى الموت
السؤال نفسه طرح في مناسبتين متقاربتين: الأولى عقب التمرد الفاشل الذي قاده بريغوجين ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يونيو/حزيران الماضي، والثاني بعد مصرعه.
في المرة الأولى، كان فشل التمرد بمثابة موت مؤجل بالنسبة لقائد فاغنر، ولذلك توجهت الأنظار إلى أفريقيا خصوصا، هناك حيث تنشط المجموعة في عدد من البلدان تحت عناوين مختلفة.
لكن سرعان ما تأكد أن ما حدث في روسيا لن يلقي بحممه على القارة السمراء، وأن نفي بريغوجين إلى بيلاروسيا لن يحد من طموحاته في القارة السمراء.
أما المرة الثانية فأعلنت غيابا دائما بمصرع بريغوجين، ما يجدد ذات السؤال خصوصا فيما يتعلق بوجود المجموعة في أفريقيا الوسطى ومالي وغيرها من بلدان أفريقيا التي ترتفع فيها أصوات البنادق.
تم تأكيد وجود قوات فاغنر لأول مرة في جمهورية أفريقيا الوسطى، بعد أن طلب الرئيس فوستين أرشانج تواديرا خدماتها لوقف صراع طائفي دام، ومنذ ذلك الحين ساعد الروس في إعادة بناء الجيش في البلاد وتأمين العاصمة بانغي.
وفي مالي، يتطلع المجلس العسكري الحاكم إلى موسكو لإيجاد حلول لوقف تمدد الإرهاب من الشمال، وردا على ذلك أعطت روسيا الضوء الأخضر لفاغنر.
ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تتجه بوركينا فاسو المجاورة، التي تعاني من الإرهاب وعدم الاستقرار الناجم عن الانقلاب العسكري، إلى الشرق أيضا وتحصل على خدمات فاغنر.
وفي النيجر، آخر دولة في منطقة الساحل استسلمت للانقلاب، طالبت المسيرات المؤيدة للمجلس العسكري بتدخل روسيا ورحيل القوات الفرنسية، لتسير بذلك على خطى باماكو وواغادوغو وكوناكري.
وفي الواقع، فإنه منذ تمرد بريغوجين في يونيو/حزيران الماضي، كثرت الأسئلة حول مستقبل عمليات فاغنر في أفريقيا، لكن حينها قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن هذه الأحداث لن يكون لها أي تأثير على أنشطة المجموعة.
خلافة "دقيقة"
تؤكد المسؤولة عن أفريقيا لدى "المجلس الأطلسي" للأبحاث راما ياد لفرانس برس أنه بفاغنر أو بدونها "ترغب روسيا في المحافظة على مصالحها التجارية والأمنية في إفريقيا.. إنه هدف أساسي".
يملك الكرملين أدوات نفوذ أخرى في القارة الإفريقية التي تعد في قلب معركة استراتيجية تخوضها قوى العالم.
تشمل هذه الأدوات سفارات واستثمارات خاصة وشركات مملوكة لروسيا، من قنوات تلفزيونية وصولا إلى كنائس أرثوذكسية.
ساعد ذلك في دعم نجاحات فاغنر في أفريقيا، بحسب الخبيرة في فاغنر ومؤلفة كتاب مرتقب عن مجموعة المرتزقة لو أوزبورن.
بدوره، قال السياسي المعارض من جمهورية أفريقيا الوسطى جوزيف بندونغا إن "فاغنر أداة للاستعمار الجديد الروسي ولا يوجد سبب يدفعها للتوقف".
لكن مهمة السيطرة على منظمة بريغوجين المعقّدة لن تكون سهلة.
وقال المحلل في "معهد هادسن" بيتر راف إن "لا نية لدى الكرملين بالتخلي عن مواقع بريغوجين في أفريقيا.. لكن نقل هذه العمليات من بريغوجين إلى خليفة له سيكون مسألة دقيقة".
صعوبة استبداله
أشار "مركز صوفان" للأبحاث الذي يتّخذ من نيويورك مقرا إلى أنه "كما أقرّ الرئيس فلاديمير بوتين بنفسه مؤخرا، فإن حتى الكرملين لا يمكنه حقّا فهم النظام المعقّد الذي أداره يفغيني بريغوجين".
وأشار الباحث المستقل جون لينشر الذي يؤلّف كتابا عن المجموعة إلى نقطة مشابهة.
وقال إن "استبدال عناصر فاغنر في أفريقيا سيتطلب إيجاد عناصر جدد لديهم شبكات الاتصال والخبرة اللازمة لمواصلة العمليات.. إنه أمر غير مرجّح".
على سبيل المثال، ازداد نفوذ فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى بشكل ثابت منذ وصلت إليها عام 2017، إلى حد أنّها نظّمت استفتاء في يوليو/تموز على إعادة صياغة دستور البلاد.
وقال ليشنر "يمكن أن تبقى يعض الشخصيات الرئيسية التي تمثّل فاغنر.. في مواقعها، لأسباب لعل أبرزها شبكة اتصالاتها والمعرفة المؤسساتية التي تؤدي إلى تواصل العمليات في جمهورية أفريقيا الوسطى".
لكن مقتل بريغوجين يترك منصبا رئيسيا شاغرًا من الصعب ملؤه، بحسب محللين.
وقال الصحافي الاستقصائي الروسي دينس كوروتكوف "ستكون هناك بالتأكيد العديد من الشخصيات التي ستحاول التعبير عن رغبتها بتولي هذه الأنشطة الصعبة، شرط تلقيها التمويل المناسب".
نهاية توازن؟
من المؤكد أن وفاة بريغوجين تعلن نهاية توازن القوى مع الكرملين، فالرجل كما يراه مراقبون كان يشكل نوعا من الثقل المضاد مع وزارة الدفاع الروسية، وهذا ما يفسر جرأة ما قام به قبل أشهر حين زحف نحو موسكو.
لكن قبل الوفاة، كانت تلك الخطوة القاتلة هي ما شكل نقطة التحول في المجموعة نفسها، فرغم أهميتها في السياسة الخارجية لموسكو، إلا أن ذلك لم يعفها من ضرائب ما بعد التمرد من أجل تقليم أظافر قادتها ممن يخشى الكرملين تحولهم ضده في أي لحظة.
فبعد محاولة التمرد الفاشلة لم تكتف موسكو بنفي بريغوجين، بل غيرت القيادة الهرمية لفاغنر من خلال إقصاء جميع القادة الموالين له، وانتزعت منه مركزية القرار.
كما غيرت موسكو خطابها حول ملكية فاغنر من أنها مجرد شركة عسكرية خاصة روسية لتصبح ممثلا للدولة الروسية، ما يعني أن المجموعة باتت رسمية، وهذا ما يشي بأن عملياتها في أفريقيا لن تتأثر على الأرجح بمصرع قائدها.
وبحسب خبراء، فإن دور بريغوجين منذ يونيو/حزيران الماضي كان صوريا بحتا، واستمرارها منذ ذلك الحين بهذا الشكل يعني أنها ستستمر بعد مصرعه لنهاية دوره القيادي حتى وهو على قيد الحياة.
فالقيادات تغيرت منذ فترة، وما سيحدث مستقبلا هو تغيير شكلي في الأسماء لا غير، فيما يظل القرار يصدر من موسكو ليعبر نحو الساحل الأفريقي.
لكن التحدي الوحيد الذي قد تواجهه فاغنر مستقبلا يكمن في فاعلية أنشطتها بتحولها من مجموعة تعمل على طريقة العصابات في عهد بريغوجين، إلى أخرى خاضعة للنظام العسكري الروسي.
نهاية "طباخ القيصر"
بلغ نهاية طموحه في أعمال المطاعم وصناعة الطعام حتى بات يلقب بطباخ الرئيس أو القيصر، هكذا كان بريغوجين، الرجل المعروف بسلاطة لسانه والذي كان دائما يجيب عن هذا اللقب: يمكن أن أسمى بدقة أكثر جزار الرئيس، ولم يكن يدري ما تخبئه الأيام.
عجن كل عناصر تجربته كمجرم ورجل أعمال وصاحب شبكة علاقات واسعة مع كبار المسؤولين ليؤسس شركة أمنية نجحت في خلق صدى لها داخل روسيا وخارجها.
وبمصرعه، سيذكر اسم بريغوجين في مناطق مختلفة ولأسباب مختلفة: في كييف، لقيادته مقاتليه في بعض من أعنف المعارك ضد أوكرانيا، ولكن أيضا في روسيا كمتمرد حاول الانقلاب على النظام.
وسيُذكر بريغوجين أيضاً في بلدان بعيدة عن روسيا، مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، حيث تعتمد الحكومات على خدمات مجموعة فاغنر لمواجهة التهديدات الأمنية.
سيناريوهات
سيناريوهات عديدة تتراءى بأفق فاغنر في أفريقيا بعد مصرع قائدها، أبرزها استمرار المجموعة كما هي من دون تأثر بغياب زعيمها، وهذا الطرح يدعمه الترتيب الذي خضعت له عقب التمرد الفاشل.
لكن المجموعة قد تقبل على فترة نزاع، وذلك في حال توسع الخلافات مع قياداتها ممن تتهم موسكو بالوقوف وراء مصرع قائدها، ما قد ينذر بتراجعها أو إنهاء مهامها.
أما السيناريو الثالث فقد يشمل إعادة تشكيل المجموعة وفق ترتيبات جديدة، وقد يصل الأمر حد استبدال اسمها وقياداتها مع الإبقاء فقط على الموالين منهم للكرملين.
aXA6IDMuMTUuMjE0LjE4NSA= جزيرة ام اند امز