نعم.. السلام هو الحل
يمكن القطع ومن غير أدنى شك بأن الإعلان المشار إليه جاء في وقت كادت فيه سفينة السلام في الشرق الأوسط أن تغرق مرة وإلى الأبد، لا سيما بعد النوايا الإسرائيلية الخاصة بضم أراض فلسطينية وأردنية جديدة.
ما هو الحل في مواجهة عقدة الصراع العربي – الإسرائيلي المحتدمة منذ أكثر من سبعين سنة ؟
وكأن الأيام تتكرر أو الزمان يعيد نفسه، ليجد العالم العربي نفسه أمام استحقاق كبير ومثير، استحقاق السلام في الشرق الأوسط، ذلك الذي فتح له الرئيس المصري الراحل أنور السادات الطريق قبل أكثر من أربعة عقود .
الذين يطالعون كتب مفكري الحرب الكبار من أمثال " صن تسو"و " كلاوزفيتز "، يدركون أن كسب معركة واحدة بالسلم، أفضل من الانتصار في مئة معركة عن طريق الحرب، ولهذا يبقى قول إن السلام هو الحل، قولا صائبا أمس واليوم وإلى الأبد .
تجاوز العداء العربي الإسرائيلي العقود السبعة، وأريقت دماء كثيرة، وامتلأت الصدور بالكراهية، ولم يجد المتصارعون طريقا لإنهاء العداء، طالما بقيت القوة العسكرية هي الفكرة المسيطرة، ولهذا استشرف البعض أن السلام هو الحل، لا سيما أنه قادر على خلق أجيال متسامحة ومتصالحة، وبعيدة كل البعد عن ميادين القتال، بل راغبة وقادرة على خوض غمار معارك التنمية والاستقرار .
جاء هذا الإعلان ليضع الجميع أمام مفاجأة حقيقية، سواء من حيث الشكل أو المضمون.
ولعل السؤال الأول الذي يتردد على الأذهان :" هل هذا هو الوقت القيم كما يخبرنا علم النفس، أي الذي تتعاظم فيه الفائدة من فعل بعينه مثل فعل السلام ؟.
يمكن القطع ومن غير أدنى شك بأن الإعلان المشار إليه جاء في وقت كادت فيه سفينة السلام في الشرق الأوسط أن تغرق مرة وإلى الأبد، لا سيما بعد النوايا الإسرائيلية الخاصة بضم أراض فلسطينية وأردنية جديدة، وبما يسمح بحالة انفلاش جديدة لحركة الاستيطان، يضيع معها ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية .
وجاء هذا الإعلان ليقطع الطريق على سيناريو " الضم " الشهير، الذي كاد يشكل فتيل انفجار الشرق الأوسط الجديد، وحكما بداية لسلسة من الحروب البينية، والتي يمكن أن تتحول إلى حرب إقليمية .
على أن سائلا يتساءل :" وهل في إسرائيل من له دالة على السلم ؟.
دعونا في رحلة البحث عن الجواب نعود إلى مذكرات الجنرال " إسرائيل ليئور " مدير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي " ليفي اشكول "، خلال حرب الستة أيام عام 1967 والذي وصف حال اشكول بالقول إنه كان يصرخ بصوت عال قائلا :" ما الذي يريده هولاء، هل يريدون لإسرائيل أن تعيش على حد السيف إلى الأبد؟.
كان اشكول يقصد بهؤلاء جنرالات إسرائيل، أولئك الذين احتلوا بالحرب مساحات واسعة وشاسعة من أراضي العرب، لا يمكن لهم أن يحافظوا عليها بالسلام .
يمكن القول أن اشكول كان أول الأصوات الباحثة في أفق بعيد عن الحرب، والتي هي إحدى وسائل الدبلوماسية كما يقال، ولهذا يجيئ الإعلان الإبراهيمي الأخير ليدعم ويزخم كل أصحاب النوايا الطيبة في الداخل الإسرائيلي الساعين في طريق السلام، والرافضين للحرب.
طويلا جدا ارتفعت الأصوات الحنجورية في عالمنا العربي ضد إسرائيل والتهديد بإلقاء اليهود في البحر، وقد أثبتت التجربة التاريخية أن " منطق الطبلة والربابة، التي ما قتلت ذبابة " كما قال شاعر سوريا الكبير" نزار قباني "، لهو منطق أجوف لا فائدة منه ولا طائل من ورائه، وأن على العقلاء البحث عن مسارب أمل أخرى للحياة لا للموت .
أفضل ما يمكن أن تتصف به الإمارات العربية المتحدة هو الشفافية والصدق في كافة شؤونها الحياتية والدبلوماسية، ولهذا فإنه حين وجدت أن هذه الخطوة سوف تدعم معسكر الباحثين عن السلام من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فإنها مضت قدما، لا تشغلها المزايدات الفارغة، أو يفت في عضدها أصحاب الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة، فهؤلاء كانوا سبب وبال على الأمة العربية، ولو استشرف أعضاء جبهة دول الرفض بقيادة صدام حسين لدعوة الرئيس السادات عام 1977 للدخول في مفاوضات جماعية مع إسرائيل، لربما كان حال المنطقة تغير مرة وإلى الأبد، لكنها المكابرة الجوفاء وعلى غير المصدق أن ينظر إلى العراق وما آل إليه .
لطالما كانت الإمارات سندا وعونا للشعب الفلسطيني، الأمر الذي لا تنفع معه المزايدات الفاشلة، ولا تشفع فيه أبواق الإعلام المغشوشة التي تتحدث بلغة خشبية فات موعدها عن تحرير فلسطين، وهم يستقبلون من يعتبرهم الفلسطينيون أنفسهم ألد الأعداء، والذين يعملون على شق الصف الفلسطيني مرة وإلى ما شاء الله .
لم تتوان الإمارات عن تقديم كل الدعم للقضية الفلسطينية، سواء في المحافل الدولية سياسيا، أو على الأرض لوجستيا لدعم وزخم أبناء الشعب الفلسطيني، أولئك الذين عانوا ولا يزالوا من شظف العيش وقسوة الحياة .
على مدى سبعة عقود ونيف، عانى الفلسطينيون من الانقسامات والتشظي على مستوى القيادات، وكابد الشعب الفلسطيني شظف العيش ومرارة الحياة، ما بين التهجير إلى الخارج من جهة، والتعرض للعسف والخسف من الداخل من جهة ثانية، وبات السؤال أيهما أجدى.. البقاء على هذا الدرب غير المعد لأي سلام حقيقي يستنقذ البشر والحجر، أم الوصل والتواصل مع أصحاب الشأن ووضع كرسي على مائدة التفاوض لدعم الأشقاء ؟
حين كانت العنتريات تحكم العقلية العربية، خسر العرب غالبية إن لم يكن كل معاركهم مع الآخر، وحين سادت العقلانية وعلا صوت الوصل والتواصل، حقق العرب مكاسب كبرى، ولا يزال الطريق مفتوحا للمزيد، فالجسور عادة أنفع وأرفع من الجدران، ومعرفة الآخر والتأثير فيه أجدى من مقاطعته .
الإعلان الثلاثي حكما سوف يحدث حالة من إعادة قراءة الأوراق داخل المجتمع الإسرائيلي، وبلاشك سيضع اليمين الإسرائيلي المتطرف أمام مواجهة حقيقة كثيرا ما تم التلاعب بها، وهي الادعاء بأن العرب أعداء للسلام ولا دالة لهم عليه، في حين أن التجربة التاريخية تقطع بأن بلاد العرب كانت ملجأ ليهود أوروبا الذين فروا من جحيم الاضطهاد الدوجمائي في القرون الوسطى، وما من طريق لإعادة قراءة هذه الصفحات المشرقة للعرب رلا من خلال اختراق سلمي مجتمعي داخل إسرائيل بداية، ثم بقية المجتمعات الغربية تاليا .
يعيد الطرح الإماراتي الأخير الأمل في إعادة بلورة رؤية وفاقية لا فراقية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، في طريق حل الدولتين، ونشوء وارتقاء دولة فلسطينية مستقلة على ترابها الوطني .
والشاهد أن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي تمتد آثاره الإيجابية إلى دول أخرى في المنطقة ومنها الأردن، وتنزع فتيل التفجير الذي كان جاهزا ومعدا حال ضم أغوار الأردن، كما أنه يفتح الباب على مصراعيه للمزيد من الأجواء السلمية، وإبعاد شبح الحرب من الشرق الأوسط برمته.
غير أن هناك علامة استفهام عميقة ومثيرة حول مدى التزام إسرائيل بمثل هكذا اتفاق .
هنا ينبغي القول إن الكرة الآن في الملعب الإسرائيلي، وحكومة نتنياهو قد وافقت على قواعد المباراة، ولهذا فإنه لا يمكنها أن تغيرها أثناء اللعب، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية ضامن رئيس في المشهد .
وفي كل الأحوال فإن أي تراجع عن استحقاقات السلام، سيجعل إسرائيل تعيش لأجيال في " الغيتو " الذي عرفته تاريخيا طويلا جدا، بينما التوصل إلى سلام عادل مع الجيران سيقود إلى عودة عصور ذهبية من التعايش الإبراهيمي في المنطقة .
السلام قرار الشجعان ولا يقدر عليه إلا من لديهم مقدرة أن يقبضوا على الجمر .