المباني صافية الصفر.. مستقبل البناء في عالم يصارع تغير المناخ
تعد المباني الحديثة من أكثر المنتجات كثافة للكربون في المجتمع البشري، لذا برزت المباني صافية الصفر في الأعوام الأخيرة كحل صديق للبيئة.
بنيت المكاتب أو المنازل في القرن الحادي والعشرين بشكل معقد ومذهل، حيث يوجد عالم كامل من السباكة والأسلاك ومواد العزل تحت سطح العقارات.
توسع هذا المستوى من التعقيد على مدى عقود من الزمن، خاصة مع إضافة طبقات من التكنولوجيا ووسائل الرفاهية إلى حياتنا اليومية.
لكن هذا النظام المعقد له ثمن بيئي باهظ، وتشير التقديرات إلى أن قطاع البناء والتشييد يمثل 34% من الطلب العالمي على الطاقة و37% من الانبعاثات المرتبطة بالطاقة.
في ظل العمل العالمي لمواجهة تغير المناخ وكوارثه، ظهرت "المباني صافية الصفر"، كأحد الحلول المهمة لتقليل الانبعاثات من قطاع البناء، وبالتالي تحقيق الأهداف المناخية العالمية.
يشير المصطلح إلى المباني الجديدة التي تكون إما خالية وإما محايدة للكربون، بمعنى أنها تنتج صافي انبعاثات الكربون على أساس سنوي.
تتميز المباني الخضراء بالكفاءة في استخدام الطاقة، بجانب أنها تستهلك طاقة صفرية من مصادر على نطاق المرافق وعلى أساس سنوي، لأن جميع الطاقة التي يحتاجها المبنى تولد من خلال الطاقة المتجددة في موقع المبنى نفسه.
يحدد تقرير حديث صادر عن المجلس العالمي للأبنية الخضراء بعض الحلول لتحقيق صافي الصفر في المباني، يشمل ذلك تحديد أهداف قوية، والوصول إلى التمويل المستدام، وجمع البيانات الدقيقة، والتعديل التحديثي العميق للمباني القائمة.
يعمل المجلس العالمي للأبنية الخضراء (WGBC)، منظمة غير ربحية، على دعم القطاع ليصبح أكثر اخضرارا واستدامة وتحقيق صافي انبعاثات صفرية، وتنتشر فروعه في أكثر من 70 دولة لتعزيز الممارسات المستدامة في القطاع.
- كيف يقود الذكاء الاصطناعي كفاءة الطاقة ومواجهة تغير المناخ؟
- افتتاح أول مصنع لإعادة تدوير البطاريات في «دبي الصناعية»
كهرباء نظيفة
وفق التقرير، يتمثل الحل الرئيسي الأول في استخدام الكهرباء النظيفة داخل المباني الخضراء، عبر استبدال دفايات الغاز القديمة بمضخات حرارية، وتركيب الألواح الشمسية على الأسطح لتوليد الكهرباء.
ستؤثر هذه الإجراءات بشكل كبير على البصمة الكربونية للمبنى، وهناك أمثلة عديدة حول العالم لمبان نجحت في تقليل بصمتها لأقصى حد.
يستخدم مركز بوليت في سياتل بواشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية، المضخات الحرارية الكهربائية العكسية في جميع أرجاء المبنى.
يتبادل المبنى الطاقة الحرارية بين أجزائه وحتى 120 مترا تحت الأرض، لتدفئة المبنى بشكل مشع في الشتاء وتبريده في الصيف.
يحتوي سطح المبنى على مجموعة كبيرة من الألواح الشمسية الكهروضوئية، مما ينتج 230 ميغاواط في الساعة من الكهرباء سنويا، مما يساعد المبنى أيضًا على بيع الكهرباء الزائدة إلى الشبكة المركزية للولاية في فصل الصيف.
كما توفر مباني ذا ريدج، في كيب تاون بجنوب أفريقيا، التدفئة والتبريد من خلال مجموعة من معدات تكييف الهواء الميكانيكية مثل المضخات الحرارية والتبريد السلبي والتهوية الطبيعية.
تستفيد هذه المعدات من المناخ في عمليات التبريد والتدفئة، وتحسن كمية ضوء الشمس التي تخترق المبنى من خلال "واجهة متعرجة".
الإضاءة مهمة
يقول التقرير أيضا إنه في حال أردنا أن تصبح جميع المباني خالية أو محايدة للكربون خلال جيل واحد، فسنحتاج إلى النظر في الإضاءة.
يسلط التقرير الضوء على أن تحويل المباني في العالم لاستخدام إضاءة LED المتصلة، يمكن أن يوفر نحو 260 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون كل عام، أو أكثر من 900 ألف غيغاواط في الساعة، أي أكثر من 3 أضعاف استهلاك الكهرباء السنوي في المملكة المتحدة وحدها.
على جانب آخر يمكن استخدام الرؤى المستندة إلى البيانات لتعزيز قوة وحدات إضاءة LED، مما يقلل بشكل كبير من الاستخدام غير الفعال للمساحة والكهرباء، وهو ما يعني بدوره انخفاض انبعاثات الكربون وزيادة جودة الحياة.
التزمت شركة Signify، الرائدة عالميا في مجال الإضاءة، منذ فترة طويلة بصافي انبعاثات صفرية، ومنذ عام 2020 أصبحت محايدة للكربون في مشروعاتها الخاصة.
يعمل أحد ابتكاراتها الجديدة على جمع البيانات والإدارة البيئية، وتكمن فكرته في مساعدة أصحاب المباني على استخدام مساحتهم بشكل أكثر كفاءة من خلال مراقبة ما يجب استخدامه ومتى؟
تستخدم منصة "Interact Space" أجهزة استشعار بيئية لتحليل البيانات الحيوية، مثل درجة الحرارة والرطوبة ومستويات ثاني أكسيد الكربون.
تدمج هذه البيانات مع مستشعر الأشخاص الذي يحسب عدد الأشخاص الموجودين على الأرض أو في الغرفة.
تستخدم جميع هذه البيانات لضبط ظروف عمل وحدات الإضاءة، لتجنب إضاءة المساحات غير المستخدمة وتعزيز الإنتاجية، وتحديد أين يمكن تحقيق وفورات الكفاءة.
المشتريات الدائرية
المشتريات الدائرية هي عمليات شراء للمنتجات والخدمات تطبق مبادئ الاقتصاد الدائري، أي تقلل من الأثر البيئي وهدر الموارد، مثل المواد الخام والطاقة، لدعم التنمية المستدامة من خلال سلسلة التوريد الخاصة بالشركة.
من الممارسات الجيدة أن تعتمد المباني الحديثة على مواد البناء الخضراء والمبتكرة في مرحلة البناء، والسلع والخدمات الدائرية فيما بعد التشغيل.
يعني استخدام مواد البناء الخضراء الاعتماد بشكل رئيسي على المواد الأولية الأقل ضررا للبيئة أو حتى عديمة الضرر، عبر إنتاجها أو استخدامها أو بعد انتهاء الاستخدام.
في مؤتمر COP28 أطلقت الرئاسة الإماراتية دعوة لكل الدول من أجل الانضمام إلى تعهد المشتريات الحكومية الخضراء للقطاعات كثيفة الانبعاثات، لدعم تسريع خفض الانبعاثات في COP28.
يتطلب تعهد المشتريات الحكومية الخضراء للقطاعات كثيفة الانبعاثات التزام الدول بنسبة محددة من المشتريات الحكومية الخضراء عبر 4 مستويات.
يطلب التعهد من الحكومات الأعضاء أن تبدأ في موعد لا يتجاوز عام 2030 باشتراط أن تكون المواد المستخدمة في كل مشاريع البناء العامة منخفضة الانبعاثات، وأن تستخدم "المشاريع الضخمة والمميزة" مواد انبعاثات تقترب من الصِفر.
على جانب آخر، يمكن أن يشمل الشراء الدائري ممارسات مثل إعادة التفكير في الحاجة إلى الشراء من الأساس، واستخدام نماذج الملكية المشتركة، وإعادة استخدام أو تجديد الأصول الحالية، واختيار الخدمات بدلاً من المنتجات.
من المهم أيضا التخطيط لنهاية العمر الافتراضي، لضمان استمرار الأعمال أو البضائع في توفير القيمة في شكل مُعاد استخدامه أو مُجدَّد أو مُعاد تدويره في الحياة المستقبلية.
من الأمثلة على السلع والخدمات الدائرية السلع المعاد تدويرها أو القابلة لإعادة التدوير، المبتكرة أو المصممة بيئيا، المنتجة من مصادر حيوية، القابلة للإصلاح أو التجديد مع قطع الغيار المتوفرة، من بين العديد من الخيارات الأخرى.
"مصدر" فعلتها
مؤخرًا، انتهت مدينة مصدر، الواقعة في أبوظبي، وهي مجتمع حضري مستدام ومركز عالمي للأعمال والتكنولوجيا، من أول مبنى تجاري خالٍ من الانبعاثات في المنطقة، ويحمل اسم NZ1.
صمم مبنى NZ1 ليستهلك طاقة أقل بنسبة 53% من المبنى التقليدي بهذا الحجم، والألواح الشمسية الموجودة في الموقع قادرة على توليد 101% من احتياجاته السنوية من الطاقة، مما يجعله مكتفياً ذاتياً بالكامل، مع إعادة توجيه أي فائض من الطاقة المنتجة إلى شبكة كهرباء أبوظبي.
قال أحمد باغوم، الرئيس التنفيذي لمدينة مصدر، في تصريحات سابقة: "يعد NZ1 معلماً مذهلاً لمدينة مصدر، لطالما كانت رؤيتنا تتمثل في تسريع رحلة دولة الإمارات العربية المتحدة الطموحة نحو صافي الانبعاثات الصفرية، ونحن أقرب الآن من أي وقت مضى".
أضاف: "NZ1 هي مجرد البداية، ومن خلال نهجنا المميز تجاه الاستدامة، الذي يعطي الأولوية لاحتياجات المجتمع، والجدوى المالية، وحماية البيئة، فإننا نثبت أن الاستدامة ليست ترفا للنخبة، بل للجميع".
قال لوتز ويلجن، رئيس قسم التصميم في مدينة مصدر: "دأبت مدينة مصدر على تجاوز حدود التنمية المستدامة لأكثر من 15 عاماً".
أضاف: "NZ1 هو المبنى الأكثر كفاءة في استخدام الطاقة لدينا ويمثل أفضل ما تعلمناه حتى الآن، يعد تصميمه الجمالي أيضا أحد أبسط التصميمات في المدينة، مما يوضح أن أي مطور يمكنه إنشاء مبنى أخضر باستخدام الأدوات والخبرة المناسبة، نحن نعمل بالفعل مع محترفين آخرين يأملون في تكرار ما فعلناه".
حصل مشروع NZ1 على جائزة البناء الصافي لعام 2023 في حفل توزيع جوائز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للمباني الخضراء.
يجري حالياً تنفيذ مشروعين آخرين من مشاريع الطاقة الخالية من الانبعاثات في مدينة مصدر، ومن المقرر أن يكتملا في 2024 و2025.
aXA6IDMuMTQuMTMyLjQzIA== جزيرة ام اند امز