في زمن غلب فيه الصخب الإعلامي على صوت الحقيقة، تتكشف أمامنا حملة شرسة وممنهجة تستهدف دولة الإمارات العربية المتحدة، عبر اتهامات باطلة تُردّد بلا بيّنة، تُحمّلها تبعات الحرب الدائرة في السودان التي أشعل فتيلها الإسلاميون في أبريل 2023.
وهذه الحملة، وإن بدت جذورها مغروسة في التربة السودانية، فإن أذرعها الطويلة تمتد إلى ما وراء السودان، حيث تُدار بواسطة جهات تُجيد الصراخ أكثر مما تُحسن قراءة الواقع.
بدأت الحملة عقب الهزيمة التي مُني بها الجيش السوداني وحلفاؤه من المليشيات والكتائب الإسلامية في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، أمام قوات الدعم السريع. وقد رافق ذلك، كما في محطات سابقة من الحرب، انتهاكات باتت سمة مألوفة لطرفي الصراع عقب كل انتصار ميداني يحققه أحدهما على الآخر.
ومع تزايد الانتقادات التي صاحبت سقوط المدينة، حاول الجيش تبرير الهزيمة بالحديث عن «انسحاب تكتيكي»، غير أن هذا التبرير انهار بعد انتشار صور آلاف الأسرى، فكان لا بد من البحث عن طرف خارجي يُحمّل مسؤولية الانكسار، لتُعاد الأسطوانة القديمة ذاتها: اتهام الإمارات.
من يتتبع مسار الحرب في السودان لا بد أن يلاحظ أن الطائرات والمسيرات التي تضرب المدنيين معروفة المصدر والهوية، بل إن بعضها يفصح عن منشئه من اسمه، مثل «بيرقدار» و«شاهد» و«أبابيل»، إضافة إلى دول أخرى، قريبة وبعيدة، تتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة لصالح الجيش وحلفائه من الإسلاميين لتحقيق مصالحها الخاصة.
ورغم وضوح هذه الحقائق، لم تُوجَّه أي اتهامات أو تُشنّ حملات ضد تلك الدول، بينما انصبت الاتهامات على الإمارات التي لم تُحلّق طائراتها فوق المدن والقرى، ولم تترك المدنيين الأبرياء بين ركامٍ وأشلاء.
لماذا إذن هذا الاستهداف؟
لأن المقصود ليس الحرب ذاتها فحسب، بل صورة الإمارات ودورها الإقليمي المتنامي، وثقلها السياسي المتصاعد، وكونها - وهو الأهم - أصبحت الدرع الواقية للمنطقة من خطر الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة التي ترى في نجاح النموذج الإماراتي تهديداً لوجودها الأيديولوجي.
الإمارات التي تُستهدف اليوم بالحملات كانت ولا تزال من أكثر الدول دعماً للعمل الإنساني في السودان. وآخر شواهد ذلك تبرعها قبل أيام بمئة مليون دولار لتخفيف معاناة المدنيين في الفاشر. وهي، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، تبذل جهودًا حثيثة عبر الآلية الرباعية، وقبلها من خلال المجموعة الأفريقية، من أجل وقف الحرب، ولا تزال تسعى لوقف إطلاق النار وتثبيت الهدنة الإنسانية لإيصال الإغاثة إلى المتضررين.
فكيف يُعقل أن تُتهم دولة تبذل كل هذه الجهود لوقف القتل بأنها ضالعة في الاقتتال؟ وكيف يستقيم أن يُترك حراً من يجزّ الأعناق ويقصف المدن بالطائرات، بينما تُوجّه الحملات نحو من يسعى لإنقاذ الأرواح وإغاثة الأبرياء!
لا يخفى على أي متابع أن الحملة ضد دولة الإمارات تحمل بعدين متداخلين: سياسيًا وأيديولوجيًا.
البعد السياسي يرتبط بنفوذ الإمارات المتنامي إقليمياً ودولياً، وبما تمثله من نموذج عربي يسعى إلى ترسيخ الاستقرار والتنمية. والذين يعبّرون عن هذا الجانب فتحركهم المنافسة والغيرة السياسية والمصالح الضيقة، لأن الهدف هنا ليس السودان ولا إنسانه، بل صورة الإمارات نفسها ومحاولة النيل من مكانتها المتصاعدة.
وأما البعد الأيديولوجي فتقوده جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها في المنطقة، ومنها الحركة الإسلامية السودانية التي أشعلت الحرب طمعًا في العودة إلى السلطة. والإمارات تمثل العقبة الرئيسية في وجهها، إذ تعتبر الدولة الوحيدة في المنطقة التي تجاهر بدعم تطلعات الشعب السوداني نحو حكمٍ مدني بعد وقف الحرب.
إن السودانيين يتعرضون اليوم لأكبر عملية ابتزاز إنساني تستهدف وجدانهم الجمعي، يُستغل فيها ضعفهم الإنساني وحزنهم العميق تحت وطأة الحرب، على يد جماعة إسلامية إجرامية هي ذاتها التي أشعلت الحرب ضدهم، وتسعى الآن إلى انتزاع براءة زائفة منهم تمهيداً لعودتها إلى كراسي الحكم من جديد، على آلامهم وفوق جثث أهلهم وأحبّائهم.
ولكن السودانيين يعرفون قاتلهم أكثر من غيرهم، ويدركون أن حرب دارفور الراهنة لم تبدأ مع المواجهات الأخيرة ضد قوات الدعم السريع، بل هي امتداد لحربٍ عمرها ربع قرن، ارتُكبت خلالها واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في التاريخ الحديث، على يد الحركة الإسلامية ذاتها التي تحاربهم اليوم، ولا يزال بعض قادتها مطاردين ومطلوبين للعدالة الدولية. كما يدرك السودانيون ايضاً من هم الذين يساهمون في قتلهم من الخارج، ولماذا يفعلون ذلك.
لا بد أن الحملة على الإمارات ستخفت كما خفتت حملات قبلها، فالحقيقة، كالشمس، مهما حاولوا حجبها، تفرض نفسها في النهاية.
ومهما علت الأصوات الزائفة، ستظل الحقيقة ناصعة: أن الإمارات تقف إلى جانب الشعب السوداني، وتساند تطلعاته إلى حكمٍ مدني عادل ومستقر، وأن الذين يهاجمونها من داخل السودان وخارجه ليسوا سوى الجهات ذاتها التي تسعى إلى إطالة أمد الحرب حفاظاً على نفوذٍ يتداعى ومصالحٍ آيلة إلى الزوال، لا دفاعاً عن السودان ولا عن شعبه.
وفي نهاية المطاف، يظل الحكم للشعب السوداني، ويبقى الخزي والعار من نصيب أولئك الذين يتآمرون عليه، وعلى من يساندونه، من وراء الحملات المدسوسة في العتمة، في الداخل والخارج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة