الشعر في ليبيا.. خفوت الصوت ورصاص الميليشيات
الحركة الشعرية في ليبيا شأنها شأن غيرها من ألوان النشاط الثقافي والذهني تأثرت بالظروف التي مرت بها البلد عبر السنين وما زالت
على الرغم من تلون المشهد الثقافي الليبي بطيف متنوع من الآداب والفنون والإبداع الإنساني، يبقى الشعر بقي متمتعًا بمكانته الثقافية المتميزة لعراقته عند الشعوب العربية عمومًا، ولارتباطه بمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية لدى الشعب الليبي، كذلك باعتباره الوسيلة المباشرة للتعبير والتأثر والتأثير، لاعتماده على اللغة كفضاء تنطلق منه الإبداعات الشعرية نظمًا لمرادفات وتضادات معاني اللغة لتقديم حالة انفعالية يمر بها الشاعر ويتعاطى معها المتلقي بإصغاء واستمتاع.
الحركة الشعرية في ليبيا، شأنها شأن غيرها من ألوان النشاط الثقافي والذهني، تأثرت بالظروف التي مرت بها البلد عبر السنين، فتارة ينتعش ويجد الشعراء البراح رحباً لقريحتهم لتجود بإبداعاتهم ودررهم الشعرية، وتارة أخرى تأتي على الشعر أيام كبيسة تجعله في ذيل سلم أولويات الحياة وينحدر مستوى الكلمة والإبداع الإنشائي.
يرصد الدكتور مسعود عبد الله مسعود، من جامعة الزاوية، في دراسة له حول "الحركة الفكرية والثقافية في ليبيا" بزوغ الحركة الشعرية الليبية إبان الحكم التركي التي مرت بحالة من الركود حتى أن شعراء العربية الفصحى لم يتعد عددهم أصابع اليد الواحدة، وقد كان أشهرهم "محمد فالح الظاهري"، والشاعر "أحمد الطائفي"، ثم أتى بعدهم "عبد الرحيم المغبوب"، و"أبوسيف البرعصي"، وقد اتصف شعر تلك الحقبة بالتكلف في البلاغة والنظم.
أما أول ديوان شعري فصيح تمت طباعته في ليبيا فكان للشاعر "مصطفى بن زكري" عام 1892م، بحسب ما أورده الباحث "الصيد أبو ديب" في دراسة له بعنوان «الشعر الليبي في القرن العشرين»، ولم يعتبر "أبوديب" هذا التاريخ سنة محددة لبروز ظاهرة الشعر الحديث في ليبيا، غير أنه يمكن التوثيق به لدخول الشعر مرحلة الطباعة، ولعل أبرز ما يُلمس من شِعر "ابن زكري" تأثره بشعراء عصره في تلك الفترة المعتمدةِ بشكل كبير على الوغول في منح أهمية بالغة للبناء الإنشائي للنص، والعناية بالمحسنات البديعية، وإبراز قدرات الشاعر البلاغية، يمكن أن نلمس ذلك، مثالًا، في قوله:
[وجنى الجنَّتين من وجنتيه ... يانعٌ غير أنه غيرُ دان]
ويذكر الباحث في الحركة الأدبية الليبية "قريرة زرقون" أنه بعد طباعة "ديوان ابن زكري" بخمس سنوات ظهر للنور ديوان آخر للشاعر "عبدالله الباروني النفوسي" لِتَتَتالى بعده سلسلة الدواوين المطبوعة، ويبدأ مسار الشعر ينساب نحو البساطة والسلاسة في النظم والأوزان الشعرية الخفيفة، مع اتصاف القصائد بالطابع الديني والحث على الجهاد في سبيل الله، مع ندرة غرض الشعر الغزلي في قصائد شعراء تلك المرحلة نتيجة للتربية الدينية والثقافة الإسلامية التي جعلتهم يبتعدون عن هذا النمط من الشعر.
بالعودة إلى الباحث "مسعود عبد الله مسعود"، يؤكد أنه في أيامنا هذه، وفي ظل الحالة الثقافية المهترئة والمزاج الرمادي السائد في البلاد كمحصلة للصراعات والتجاذبات السياسية، نجد أن الشعر يمر بمرحلة لعلها تكرار لإحدى تلك المراحل التاريخية التي مر بها وكانت حاله وحال ناظميه مهملين في إحدى الزوايا المظلمة.
راهنا، يرصد الشاعر الليبي الشاب "صالح قادربوه" خفوت الصوت الشعري في الرقعة الليبية، ويرى بأنه لم يحدث أي تحول نوعي في الحراك الشعري في ليبيا في الفترة الأخيرة، فقد احتفظت الأسماء الشعرية المعروفة بمكانتها مع تراجع الاهتمام بالشعر عمومًا لمصلحة السياسة والحرب والصراعات المناصبية، وأصبح النص الشعري في العموم نادرًا في بيئة تهتم بالأساس بالتحليل السياسي والإخباري والإشاعات، وأصبح الشعر ملفًا مهملًا لا قيمة حقيقية له، اللهم إلا شعر المناسبات والاحتفالات ويتميز بالركاكة والتأجيج.
وفي سؤال "لبوابة العين" حول دور الشعر والشعراء فيما تمر به البلاد أجاب "قادربوه" بأن الشعر لم يواكب بشكل واضح الحالة الليبية، باستثناء نصوص منفردة خجولة لكنها ليست ظاهرة، تقدم المشروع الحزبي والأيديولوجي على مفهوم الشعر الذي يتصل بتفاصيل حياة الناس ووجدان الفرد وأفكاره وتخيلاته، فالرعب طغى على الروح، لكنه لم يخلف تراثًا لكفاح الرعب؛ لأن الشعراء منشغلون بالتوجهات العامة لا بالفلسفة الجمالية.
ويضيف، إن الشعر أصبح بوق السياسي وصوت الميليشيات السياسية المسلحة، والشعراء المؤمنون بالشعر وقيمته يكادون يندثرون، الموت والفاجعة وانهيار المشروع المدني صبّ في مصلحة حفر قبور المبدعين، بالمعنيين الرمزي والحقيقي.
الشاعر "أسامة الرياني"، وفي مقابلة خاصة مع "بوابة العين" يعتبر أن الحركة الشعرية جزء من المشهد الثقافي الأشمل، يعتريها ما يعتري المشهد من خمول وتراجع، ويسري على الواقع الشعري ما يسري على الواقع الثقافي العام من بُعد عن الواقع، والانحسار في أروقة النخبة، تاركًا فضاءات العامة، ونائيًا عن ملامسة المواطن البسيط.
الرياني أكد أن الشعراء الليبيين كأغلب النُخب المُثقفة في بلادنا، تعيش معزولة عن الواقع، ولا نرى لها إسهامًا حقيقيًّا في النهضة، ولا في سبيل الخروج بالبلاد من واقعها، وأنا هُنا لا ألوم المثقفين والأدباء، ففي بلادنا لا صوت يعلو فوق صوت البندقية، وما يفعله كاتب في عشرات السنين قد تفعله بندقية خلال دقائق بشكل أسرع وأبشع حتمًا.
وفي سؤال "لبوابة العين" عن أبرز التحديات التي تواجه الشعراء والحركة الشعرية في ليبيا لتقديم إبداعاتهم؟ أجاب "الرياني" أبرز التحديات في نظري تتلخص في جسر الهوة مع المتلقي، ومع رجل الشارع العادي، حيث إن التجربة الشعرية الليبية مرت بعصور مظلمة في التسعينيات، بظهور طبقة من الشعراء، احتفى بهم الإعلام في تلك الفترة، وكان بعضهم يكتب سخافات، وترّهات من العيب أن تُسمى شعرًا، وهذا ـ في نظري، نفَّر الناس من الشعر، وجعلهم يكرهونه، وفي الوقت ذاته جرّأ أقوامًا على الشعر، فارتقوه وهم لا يحسنون مبادئ اللغة، ولا يملكون من الثقافة أي نصيب.
ويختم الرياني قائلاً: لكنني أبقى متفائلاً فأنا أرى على الطريق شعراء أفضل بكثير من شعراء جيلي والجيل الذي سبقه، وأنا على يقين من أن الحركة الشعرية الليبية ستشهد -رغم الواقع السياسي والأمني- نهضة كبيرة، وإشراقًا لشموس شعرية تضيء سماء الوطن.