لوحات أولى لجميل حرب.. التوحّد كبَوحٍ جماليّ عبر الألوان
لن يكون المعرض الفني المُقام في "دار المصوِّر" (بيروت) عاديًّا؛ فالفنان الذي يُقدِّم فيه 40 لوحة، طفل في الـ7 من عمره، ومُصاب بالتوحّد.
لن يكون المعرض الفني المُقام حاليًا في "دار المصوِّر" (بيروت) عاديًّا أو عابرًا؛ فالفنان الذي يُقدِّم فيه نحو 40 لوحة، طفلٌ في السابعة من عمره، ومُصاب بمرض التوحّد، واللوحات المختارة من بين 100 أخرى رسمها منذ أعوام قليلة، تعكس شيئًا من "دواخله" الإنسانية الخاصّة به، ومن عالمه المنغلق عليه، ومن ذاته المفتوحة على أحاسيس طفل ينمو على أوراق بيضاء لا يتردّد لحظةً واحدةً عن تحويلها إلى مجسّمات ملوّنة بألوان فاتحة أو غامقة، كي ينقل فيها ما يشعر بأنه جزءٌ منبثقٌ منه، أو كي يُعلن اكتفاءه الذاتيّ بلعبة الرسم فقط.
لعبة الرسم؟ من صميم اللعبة هذه؛ يُقدّم جميل حرب معرضه "100 لوحة لجميل"، انطلاقًا من كون الرسم، بحدّ ذاته، جزءًا أساسيًّا من طفولة كثيرين معه، يُضاف على اللعبة معنى آخر، يتمثّل بمزج تفاصيل مختلفة في حيّز واحد، وبإخراج بصري لتصويرات عالقة في ذهنه، لكنها تعثر على منفذٍ لها إلى العالم الخارجيّ من خلال يديه المتّسختين بالألوان، وعبر عينيه اللتين تريان في الألوان امتداداً لشغف تتوضّح ملامحه بخطوط وأداوت وأشكال ومساحات، وإذ تُحافظ الأشكال على حضور عاديّ في امتلاك مساحة اللوحة وعمقها الذاهب بمضمونها إلى أشياء "صبيانية" (أي خاصّة بالصبيان في عمر "الشقاوة" كما يقولون)؛ فإن الخطوط تُركِّز القول الذي يريد البوح به، والمساحات تُفعِّل بهاء اللحظة في انكشاف سردية حكاياتها عبر أداوت، هي فعليًّا تلك التي يختارها أطفال كثيرون كألعاب أو كأغراض: سيارات صغيرة، أزرار، قضبان، أسلاك تُشبه الخيطان فتتحوّل في اللوحة إلى ما يُشبه الورود، إلخ.
حكاية جميل حرب مع الرسم مروية على لسان والدته رنا، التي تتعاطى مع توحّد ابنها بشفافية كبيرة، وبإحساسٍ يجعلها تُفعِّل دورها كأم من خلال التنبّه إلى التفاصيل كلّها التي تحيط بابنها، تكتب عنه مرارًا، فتنشر بعض الكتابات هنا وهناك، تقول إنها تُهديه، ذات مرّة، أوراقًا ودفاتر وأقلامًا ملوّنة للرسم، و "المعروف عن الذين يُعانون التوحّد أنهم يُحبّون السوائل، هكذا تحلّ الألوان السائلة مكان مواد الجلي والتنظيف، التي يُدلقها دائمًا على بلاط المنزل"، لن تكون الهدية سريعة التأثير عليه، يحتاج جميل إلى بعض الوقت لاكتشافها، ينتبه لاحقاً إلى أغراض الهدية، فيستعين بها ليُلوِّن خطوطاً أو أشكالاً عشوائية مختلفة، قبل أن تنتظم أموره شيئاً فشيئاً باتجاه تحويل اللعبة ـبعفوية طفولية عميقةـ إلى ابتكارٍ لأنماطٍ خاصّة به، تبوح بما يعتمل فيه من انفعالات إزاء شيء أو حالة أو أداة أو شخص.
لوحته الأولى مليئة بحبوب الأرزّ والعدس، اكتشاف والدته رنا لها بداية مسار يؤدّي بجميل حرب إلى تعلّم "أصول" اللعبة هذه: معنى الريشة وكيفية إمساكها، ومعنى الألوان وكيفية التعامل معها، وإن وفقًا لمنظوره الخاصّ، تكبر المساحة المطلوبة له رويداً، إذ يُصبح التلوين مدخلاً إلى الرسم، والرسم باباً مفتوحاً على حكاية اللون في مقاربة عالمه الذاتيّ، لوحة أولى تأخذه إلى ثانية وثالثة، وأم مدركةٌ صعوبة تمرينه على التفاصيل الأساسية للرسم، لكنها مُصمِّمة على مواكبة ابنها على هذه الطريق المفضية به إلى معرض "مئة لوحة لجميل".
لوحات جميل في المعرض الذي يُختتم الجمعة 27 نوفمبر تقول حكاية طفلٍ يجد في الألوان فضاءً يعينه على إيجاد مُعادِلٍ حيويّ لما يراه ويحسّ به ويتفاعل معه، أشكال عديدة تنتظم في لوحات، وخطوط تبدو كأنها مرايا يقف جميل أمامها متأمّلاً بها، قبل أن يخترقها بعفويته وخصوصيته وحضوره الذاتيّ، جاعلاً إياها بداية اختبار للّون والخطوط كمدى تعبيريّ، وتحدّ إضافيّ للتوحّد عبر جعل الأوراق والألوان والأدوات كلّها بوحاً آخر يروي حكايته عبر الرسم.