منذ نحو 150 عاما، أطلق رئيس وزراء بريطانيا (بنيامين وزرائيلى) وصفا على المجتمع البريطاني، أخذ يتكرر استخدامه منذ ذلك الوقت
منذ نحو 150 عاما، أطلق رئيس وزراء بريطانيا (بنيامين وزرائيلى) وصفا على المجتمع البريطاني، أخذ يتكرر استخدامه منذ ذلك الوقت، فى دولة بعد أخرى، للتعبير عما يعانيه المجتمع من انقسام طبقى أو ازدواجية اجتماعية، وهو قوله إن المجتمع البريطانى ليس أمة واحدة بل أمتان.
هل يمكن حقا أن يوجد مجتمع، أى مجتمع، وفى أى عصر من العصور، دون شكل أو آخر من «الطبقية»، أى دون أن ينقسم إلى شرائح اجتماعية، عليا ودنيا، فتتمتع العليا بمتع الحياة وبالجاه والسلطة، بينما تحرم منها الشرائح الدنيا؟ لا أظن أن هذا ممكن. وتاريخ مصر الحديث، مثل غيره من الدول يؤيد ذلك.
إن من وعى مثلى تطور الحياة الاجتماعية فى مصر منذ 1950 وحتى الآن (وهى فترة تقرب من ثلثى قرن) لابد أن يلاحظ أن كثيرا من مظاهر الطبقية والازدواجية الاجتماعية التى كانت سائدة قبل ثورة 1952، قد اختفى أو أصابه الضعف الشديد، خلال هذه الفترة، ولكنه سيلاحظ أيضا أن شكلا آخر من أشكال الطبقية أو الازدواجية قد حل محل الشكل القديم. لم تختف الازدواجية الاجتماعية ولكن تغير شكلها بتغير أسبابها.
إن ازدواجية 1950، التى يمكن أن نسميها «بازدواجية الاقطاع» (بالنظر إلى السبب الأساسى لوجودها) حلت محلها بعد عشرين عاما ازدواجية يمكن أن تسمى «بازدواجية الحكم الشمولي»، ثم بعد عشرين عاما أخري، أى بحلول 1990، شهدنا ازدواجية جديدة يمكن أن تسمى «بازدواجية الهجرة والنفط»، باعتبار المصدر الأساسى لنمو الثروات والدخل بين 1970 و1990 أما فى سنة 2010، أى قبيل سقوط أسرة حسنى مبارك، فكانت مصر تعيش شكلا آخر من أشكال الازدواجية، يمكن أن يسمى بازدواجية «التزاوج بين السلطة ورجال الأعمال». القصة مثيرة بلاشك، وتستحق أن تروى بشىء من التفصيل.
كانت الازدواجية الاجتماعية فى مصر فى 1950، تتمثل أساسا فى المفارقة الصارخة بين الريف والحضر، حيث يسود فى الريف، الذى كان يسكنه ما لا يقل عن 80% من السكان، الفقر والأمية والمرض، بينما تحظى المدن بالشوارع والمساكن الأنيقة،. والمدارس الحديثة، وتوجد بها تقريبا كل ما تحظى به مصر من مستشفيات ومصحات وأطباء، مصريين أو أجانب، وينافس سكانها فى مستوى معيشتهم سكان أكثر الدول تقدما.
كانت الطبقة العليا ضئيلة الحجم جدا، بالنسبة لمجموع السكان، وتتكون من ملاك الأراضى الكبار (أو الاقطاعيين إذا شئت) ومنهم الأسرة الملكية وحاشيتها. كان لايزال الكثير من عائلات هذه الطبقة تجرى فى عروقها دماء تركية، ويعتزون بذلك، وينظرون إلى بقية المصريين على أنهم مجرد (فلاحين)، كما كانوا غارقين حتى الأذنين فى نمط الحياة الغربية، تختلط فى كلامهم اللغة العربية بلغة أجنبية، ويمارسون كل عادات الغرب فى المأكل والملبس والمسكن، فضلا عن المدارس التى يرسلون إليها أولادهم. كان كل هذا من شأنه أن يعزل هذه الطبقة عزلا شبه تام عن بقية المجتمع: لهم قصورهم ونواديهم وشواطئهم التى قد يراها بقية الناس من بعيد دون أن تطأها أقدامهم قط.
لقد قامت ثورة 1952 للقضاء على هذه الازدواجية، وسرعان ما أدركنا ذلك وفرحنا به. ولكن بعد مرور عشرين عاما أو أقل على قيام هذه الثورة، كانت ازدواجية جديدة قد حلت محلها.
كان لابد أن تؤدى الاجراءات التى اتخذتها الحكومات المتعاقبة بعد ثورة 1952 (من اصلاح زراعى إلى فرض الحراسات وتأميمات إلى التعبئة والتوسع فى الجيش والجهاز الحكومي.. الخ)، إلى أن تتربع طبقة حديثة على عرش المجتمع المصري، ليس عن طريق وراثتها لملكية الأراضى الزراعية ولكن عن طريق وراثتها للسلطة. إن الزراعة لم تعد هى المصدر الأساسى للدخل كما ظلت لعدة قرون قبل 1950، ولكن الصناعة والتجارة لم تنموا بعد 1950 بالسرعة الكافية لايجاد طبقة جديدة مؤثرة، وإنما الذى نما بسرعة كان هو احتكار السلطة، وقد كان هذا كافيا وحده لايجاد طبقة جديدة ومؤثرة، ومن ثم لايجاد ازدواجية من نوع جديد.
بدأت الطبقة العليا الجديدة عهدها وهى قليلة العدد جدا، بل وأقل عددا من الطبقة العليا السابقة، إذ كانت السلطة تنحصر فى البداية فيما سمى «بمجلس قيادة الثورة» وعدد صغير من المحيطين به من ضباط. ولكن ممارسة السلطة على نطاق المجتمع بأسره كان يحتاج بالطبع إلى ضم عناصر جديدة، تتولى ما كان من سلطة لملاك الأراضى الكبار فى الريف، وتسيطر على الاعلام، بما أصبح له من أهمية مضاعفة للترويج لأصحاب السلطة الجدد، وتتولى الوزارات المختلفة، ثم إدارة القطاع العام والمؤسسات الجديدة الآخذة فى النمو، لوضع مشروع الثورة الجديد موضع التنفيذ.
نعم، كان لابد للثورة من «مشروع» يصلح لتبرير هذا الانتقال للسلطة من يد ليد، بينما كان أصحاب السلطة القدامى لا يحتاجون إلى أكثر من القول (كما قالوا بالفعل) بأنهم «أصحاب المصالح الحقيقية»، أى أصحاب الأراضى الزراعية التى تنتج معظم ثروة البلد. وقد قدمت عدة صياغات للتعبير عن هذا المشروع الجديد لأصحاب السلطة الجدد من «مباديء الثورة الستة» إلى «فلسفة الثورة»،، إلى تبنى النظام التعاونى ثم الاشتراكية العربية، وأخيرا ميثاق العمل الوطني. أصبح اعلان الولاء، الحقيقى أو المزيف، لهذا المشروع هو الطريق الوحيد للاشتراك فى السلطة، وقد كان هذا كافيا لاسالة لعاب الكثيرين من أفراد الطبقة الوسطي، بمن فيهم عدد وافر من المثقفين وأساتذة الحاسبات الذين ظهرت الحاجة إليهم بدرجة فاقت بكثير حاجة أصحاب السلطة القدامي. رفع فى البداية شعار التمييز بين «أهل الثقة وأهل الخبرة» وهو تمييز لا يخلو من طرافة، وكأن أهل الثقة (الذين يمكن للقائمين بالثورة أن يثقوا تماما فى ولائهم) لابد أن يفتقدوا إلى أى خبرة، بينما لا يمكن الوثوق بتاتا بصدق ولاء أهل الخبرة. المهم أن رجال الثورة استطاعوا أن يحصلوا على العدد الكافى من النوعين، فتكونت منهم الطبقة العليا الجديدة.
كان لابد أن يولد الحصول على السلطة الحصول أيضا على امتيازات لا نهاية لها. ففضلا عما للسلطة بذاتها من مزايا معنوية، كان لابد أن يرث أحد مختلف المزايا المادية التى كان يتمتع بها الاقطاعيون وحاشيتهم. ورث «الثوار» القصور والمساكن الفاخرة، التى وضعت فى البداية تحت الحراسة ثم تصّرف فيها الحراس بطريقة أو أخري، كما ورثوا النوادى والشواطيء، وتحول الانفاق الحكومى من بنود الانفاق التى تخدم ملاك الأراضي، إلى بنود لتمويل المكاتب الفاخرة وبدلات السفر.
لم تكن الازدواجية الجديدة بنفس حدة وقسوة الازدواجية القديمة، ولا كانت قائمة على المفارقة بين الريف والحضر، كما كانت قبل 1952، إذ دخل أصحاب السلطة الجديدة إلى الريف أيضا، وانتقلت شرائح كبيرة من الفقراء ومتوسطى الدخل إلى الحضر، بسبب التوسع فى التعليم ووظائف الحكومة والجيش والصناعة. ولكن ظل عدد المهمشين كبيرا، بل ربما أصبح أكبر مما كان قبل الثورة، إذ أن التهميش الآن لم يعد بسبب اقتصادى فقط، أى بسبب الفقر، بل أصبح يشمل نسبة كبيرة من المتعلمين والمثقفين الذين أصابهم نوعا جديدا من الاغتراب لا علاقة له بانخفاض الدخل.
عندما توفى جمال عبدالناصر فى 1970، كان نظامه قد خفف بلا شك من ازدواجية بغيضة بين الغنى والفقر، وبين الحضر والريف، بل كان عبد الناصر نفسه عند وفاته، هو وأسرته، يسكنون نفس البيت المتواضع الذى كان يسكنه قبل الثورة، ولم يترك وراءه ثروة تذكر، ولكنه ترك عناصر طبقة جديدة تحلم بالقفز إلى العرش بمجرد أن تتاح لها الفرصة. وهو ما تحقق بدرجة مذهلة فى العشرين سنة التالية (70 ـ 1990)، ثم ترسخ رسوخا تاما فى العشرين سنة التى تلت ذلك (1990 ـ 2010).
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة