نزار قباني.. سيد قصيدة الحب العربية
صار نزار قباني وشعره "ظاهرة" اتفق حولها المعجبون أو اختلف في تقديرها الناقدون لكن هذا الاتفاق أو الاختلاف لا ينفي الحضور ولا الذيوع.
"أنام ملء جفوني عن شواردها .. وأترك الخلق جراها ويختصم" بيت شهير لأشهر شعراء العربية على الإطلاق، المتنبي، وهو الذي صار مثلًا مضروبًا وقولًا سائرًا فيمن بلغت شهرته الآفاق وتداول الناس شعره وتغنوا به، وكثر الجدل والقيل والقال حوله، هكذا كان شأن المتنبي قديمًا (وفي كل العصور الحقيقة)، ويصدق هذا أيضًا بدرجة ما على أشهر شاعر عربي لاقى جماهيرية غير مسبوقة في قرننا العشرين الشاعر السوري نزار قباني (1923-1998) الذي تحل ذكرى وفاته الـثامنة عشرة في الثلاثين من أبريل من كل عام.
نزار قباني ملأ الدنيا وشغل الناس، وراج شعره بعد أن تغنى به كبار المطربين والمطربات في العالم العربي؛ صار "ظاهرة" اتفق حولها المعجبون أو اختلف في تقديرها الناقدون، لكن هذا الاتفاق أو الاختلاف لا ينفي الحضور ولا الذيوع، لا يغير في طرائق الاستقبال والاستجابة التي حققها شعر نزار على مدار عقود متتالية، وفي أوساط شرائح عدة تقدر بعشرات الآلاف بين جمهور متفاوت الأعمار متنوع الثقافة وعلى امتداد العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج.
اجترح قباني قصيدته "الغزلية" و"السياسية" على السواء، بوعي زمنه ولغة عصره، واستغل أحسن استغلال كل الظروف التي هيأت له نجومية براقة؛ وانتشارًا واسعًا، أدرك أن هناك اشتياقًا لبضاعة جديدة، تقتضي بدورها صناعة جديدة، لذا وصفه الناقد السوري صبحي حديدي بأنه كان "صانعًا ماهرًا"؛ موضحًا سياق هذه "الصنعة" وأطر هذه "المهارة".. يقول حديدي:
"كان نزار قباني صانعًا ماهرًا، ولا يعيبه أنه واصل إتقان الصنعة، وتوفير بضاعة لا يغشّ في صناعتها، ولا يتوقف عن تحسين مواصفاتها بقدر ما أسعفته الأدوات، حتى لقد تبيَّن أنّ بضاعته تلك لم تكن شديدة الرواج فحسب، بل كان الطلب عليها شديدًا أيضًا. ومن جانب آخر، كانت قِيَمها تلبّي احتياجات قطاعات عريضة متعددة من العباد، اختلفوا في العمر والانتماء الاجتماعي والذوق والذائقة والحساسية والأفكار، واجتمعوا على الحاجة الجمالية، وعلى نوعية البضاعة التي تشبع هذه الحاجة".
يرى حديدي أن براعة نزار قباني وبعيدًا عن هذه الاستعارة الصناعية، تكمن في أنه ظلّ وفيًّا لمبدأ الشعر بوصفه هندسة صوتية أو "صوتًا" في الأساس، بمعنى أن العنصر المهيمن في قصيدة نزار يخضع للإيقاع وتناسبات المقاطع ورنين الألفاظ، يقول حديدي: "هنالك ألوف الجمل الموسيقية التي لم تدوّن بعد على نوتة، وهنالك ألوف الجمل الشعرية التي لم تدوّن بعد على ورقة. قياس لا يبدو خاليًا من المحتوى الديناميكي إذا تذكّر المرء أنه اعتبر موسيقى الشعر بمثابة البحر بشكله المطلق، أو الماء بشكله المطلق، وأنَّ الأوزان الشعرية ليست أكثر من عناصر في تركيب الماء وليست كلّ الماء. وثمة قَدَرية من نوعٍ ما بين الشعر والصوت، لأنّ الشعر في الأساس صوت، وهو في شعرنا العربي خاصة مخزون في حنجرة الشاعر وأذن المتلقي. فالصوت إذن قَدَر القصيدة وحتميتها، وليس بإمكاني بعدُ أن أتصوّر شكل القصيدة الخرساء. إنّ الفنون كلها تخضع لقانون القدرية، إذا كان للقدرية قانون. فالحركة قدر الرقص، واللون قدر الرسام، والحجر قدر الناحت. وأنا لا يمكنني تصوّر قصيدة تُقرأ بالأنف، أو موسيقى تتذوّق باللسان".
وُلد نزار قباني بحيّ (مئذنة الشحم بدمشق) في 21 مارس سنة 1923، وهو ثاني 5 إخوة (4 ذكور وأنثى) (رشيد ومعتز وصباح، وهيفاء)، وتوفيت أمه مبكرًا بعد أن تعلّق بها؛ حتى صارت تشكل له الدنيا كلها، وكان هو الطفل المدلل لديها.
وكان والده توفيق قباني آقبيق متوسط الحال "لم يكن غنيًّا ولم يجمع ثروة"، وكل مدخوله من صناعة الحلوى، وبيعها، ويساعده بذلك الفتى نزار. وعلى الرغم من انتماء نزار إلى عائلة (آقبيق) التركية الأصل التي قَدِمَت إلى دمشق واستقرت بها، فقد ظهر نبوغه الشعري وهو في السادسة عشرة إذ ورث الحساسية الفنية والأدبية من قريبه المؤلف المسرحي والشاعر الملحن (أبو خليل القباني)، أحد رواد المسرح في الثقافة العربية الحديثة، على حين كان يستوعب إرشادات أستاذه الشاعر خليل مردم بك وهو يدرس الثانوية العامة في الكلية العلمية الوطنية بدمشق والتي حاز الثانوية منها ثم دخل الجامعة السورية (كلية الحقوق) وتخرّج فيها سنة 1945.
وفي هذه المرحلة أصدر نزار ديوانه الأول سنة 1944 بعنوان «قالت لي السمراء» ثم أصدر بعد ذلك ما يزيد على 40 ديوانًا شعريًّا جعلت من نزار قباني الشاعر الأشهر والأكبر توزيعًا في العالم العربي؛ إذ تجاوزت طبعات دواوينه رقم العشرة آلاف في وقت كان أقصى ما يطمح إليه مؤلف أن يتجاوز كتابه حاجز الألف توزيعًا، وزاد على ذلك أن أغانيه روجت لكتبه، وتعدت أعمال نزار فكرة الشعر في حد ذاتها وأصبحت من علامات المراهقة، ومن أيقونات الانتقال من مراحل البراءة والبكارة إلى الاشتغال بفورة الجسد واشتعال الرغبة.
كل ذلك فضلًا عن كتبه النثرية وتسجيلاته الصوتية؛ وجمعت أعماله كلها في الطبعة المعروفة بـ «الأعمال الكاملة لنزار قباني» التي صدرت عن (منشورات نزار قباني) في بيروت.
تزوج نزار قباني مرتين؛ الأولى من ابنة عمه زهراء وأنجبت له ولدين هدباء وتوفيق، أما توفيق فقد مات بمرض القلب وعمره نحو أربعة وعشرين سنة دون أن تقدر مستشفيات لندن على إنقاذه، فحزن عليه حزنًا شديدًا، ورثاه بقصيدة عنوانها "الأمير الدمشقي توفيق قباني". ولمّا طلَّق نزار زوجته زهراء، تزوج العراقية "بلقيس الراوي" وأنجب منها ولدين عمر وزينب، لكن بلقيس قتلت في انفجار مأساوي وقع للسفارة العراقية ببيروت في 15 ديسمبر من عام 1981، ليتحول اسم "بلقيس" إلى أيقونة رائعة وفريدة في تاريخ الشعر العربي بما بكاها به نزار بكاءً مرًّا، ورثاها بقصيدة حملت اسمها، وسارت بها الألسن لما فيها من صدق التوجع والحسرة ولا سيما حين حمّل الوطن العربي كله مقتلها. ومن ثم عزف عن الزواج بعدها، وراح يراقب حالة الحزن والوحشة والانكسار التي يمرّ بها الوطن العربي فيجري إلى خندق الشعر ليصوغ منه تجربته في الحياة وفي الفن كعادته.
aXA6IDMuMTQ0LjExNC44IA== جزيرة ام اند امز