بعد جهود إقليمية ودولية مضنية، عاد إلى جنوب السودان، زعيم المتمردين ونائب رئيس الجمهورية السابق «رياك مشار»
بعد جهود إقليمية ودولية مضنية، عاد إلى جنوب السودان، زعيم المتمردين ونائب رئيس الجمهورية السابق «رياك مشار» يوم الثلاثاء 26ابريل الماضي، ليحلف مجددا اليمين الدستورية نائبا أول لرئيس الجمهورية سيلفاكير، وذلك تنفيذا لاتفاق سلام وقع فى أديس ابابا فى أغسطس 2015 تحت رعاية الامم المتحدة والايجاد ومبعوثين من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج، وتابعته مصر بوفد مكون من نائب وزير خارجيتها وسفيرنا فى أديس أبابا.
وجاءت عودة مشار لتحيى الأمال لدى شعب جنوب السودان بعد عامين من المواجهات العسكرية العنيفة، بين طرفى النزاع، الذى نشب فى ديسمبر عام2013 بعد أن اتهم الرئيس سيلفا كير نائبه رياك مشار بالتخطيط لانفلاب عسكرى ضده، ولما كان عمر جمهورية جنوب السودان هو عامان فقط منذ استقلالها وانفصالها فى يوليو2011 بعد استفتاء فبراير2011، فلم تكن هناك مؤسسات دستورية بعد قادرة على احتواء الخلافات فى الرؤى والتوجهات السياسية، فما كان من جناحى السلطة الرئيس ونائبه إلا اللجوء على الفور لحمل السلاح والدخول فى مواجهة عسكرية عنيفة مستندين للتقسيم الاثنى العرقى للبلاد بين قبائل الدنكا، ومنها الرئيس سيلفا كير، وقبائل النوير ومنها نائبه رياك مشار.
خلفت تلك المواجهة العنيفة ملايين من النازحين وتركت 5 ملايين مواطن حاليا فى حاجة لمعونات إنسانية وغذائية عاجلة، بينما يتعرض 3 ملايين لخطر المجاعة، بينما نزح 24 مليون مواطن عن ديارهم، وهاجر لخارج البلاد نحو 750ألف مواطن لاوغندا وإثيوبيا والسودان، بينما اغلقت 70% من المدارس، وهجرت الحقول والقري، والتى تعرضت لعملية تطهير وتدمير ممنهجة وارتكب طرفا الأزمة جرائم شنعاء فى حق المدنيين، وبالطبع سقط آلاف القتلي، وارتكبت أبشع جرائم الحرق والاغتصاب، والتى تركت الجنوب فى وضع إنسانى مأسوي.
هى بكل تأكيد عودة محمودة وأمل جديد لأمة صغيرة دمرتها حرب ضروس بعد عامين فقط من الاستقلال، .
ولم يعد ممكنا استعادة حماسة ما بعد الاستقلال رغم عودة مشار، والذى أقسم اليمين الدستورية مرة ثانية نائبا للرئيس، مرة ثانية يعود لنفس منصبه، ولكن هذه المرة، وهو ورئيسه وشعبهما مثقلان بالجراح، ولكنهما الرئيس ونائبه ادركا ثمن الاحتراب، وثمن اللجوء للقوة، وثمن الارتكاز على التقسيم العرقى البغيض، حتما ادركا أن الخلافات يجب أن تدار داخل مؤسسات الدولة، وأن الحزب الحاكم وريث الجيش الشعبى لتحرير السودان كان مقسما عرقيا من داخله، وأن أطماع السلطة والتفرد غلفت اعماله، وأنه مطالب اليوم، وهو يسعى لبناء الثقة أن يشكل مؤسساته، ويعيد اللحمة المفقودة والتغلب على مظاهر عدم الثقة الناشبة بجذورها فى كيانه كحزب حاكم، وامتداد هذا الانقسام فى كل المؤسسات بما فيه الجيش والشرطة ؟ إعادة تشكيلهما وإدماج المليشيات وفقا لقواعد وطنية ومهنية لا عرقية.
وتستلزم عملية بناء الدولة حتما استمرار الشركاء الدوليين فى تعزيز تطبيق اتفاق السلام وبناء الثقة.
والمنصف لدور مصر يجب أن يقدر ما قدمته لجنوب السودان حتى قبل الاستقلال لجعل خيار الوحدة جاذبا، واستمر هذا الدور فى مرحلة ما بعد الاستقلال، وتم ترجمة هذا التعاون فى مشروعات تنموية مهمة منها ما يتعلق بالكهرباء، حيث مرت عدة مدن جنوبية بمحولات توليد الطاقة، وتدير مشروعا للرى وحفر الأبار وانشاء المرافئ البحرية وشواطئ الصيد وتطهير البحيرات والمجارى المائية بقيمة 26 مليون دولار، بينما تبلغ تكلفة مشروع مصر التربوى المهم والمتمثل فى انشاء فرع لجامعة الإسكندرية فى مدينة «تونج» بولاية واراب، نحو 30مليون دولار، علاوة على دور العيادة الطبية المصرية فى جوبا، والتى تعالج 300حالة يوميا، والمدرسة الزراعية، وأخرى صناعية، ومزرعة نموذجية على مساحة 100هكتار، بالإضافة للقوافل الطبية، والمنح الدراسية الجامعية (60منحة سنويا) ولطلبة الدراسات العليا، كما تم تقديم 16 دورة تدريبية بواقع دورتان كل عام فى مختلف المجالات والتخصصات علاوة على ايفاد الوكالة المصرية للتعاون مع إفريقيا خبراءها فى مختلف التخصصات.
المطلوب من مصر، وهى تحتفظ هذا العام بعضوية مزدوجة فى مجلس السلم والأمن الإفريقي، ومجلس الأمن الدولي، أن يكون لها دور سياسى وأمني، ويسهم فى دعم جهود بناء الثقة، ويتم البناء على عودة الأمل وعودة القيادة الجنوبية لوضعها الطبيعي، متطلعة للمستقبل، ولكنها بحاجة لدعم الشركاء، وأرى أن مساهمة مصر السياسية بحكم مكانتها، وما تتمتع به من مصداقية لدى الأطراف، ضرورية لاستعادة تأثير، وتواصل القاهرة مع محيطها الإقليمى واستعادة دوائر التأثير فى شرق إفريقيا وحوض النيل، وأرى أن دعوة «الرئيس سيلفا كير» ونائبه «رياك مشار» لزيارة القاهرة، سيشكل جهدا محمودا ضمن جهود المجتمع الدولى لتعزيز التفاهم بين الطرفين، وإعادة بناء الثقة بعد أعوام الحروب والمواجهة، واقترح أن يتم بحث جهود إعادة اعمار البلد الشقيق، وعلى غرار مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى أو مؤتمر الاستثمار والتجارة «إفريقيا2016» اللذين استضافتهما شرم الشيخ، يتم الدعوة لمؤتمر يخصص لاعادة إعمار جنوب السودان، والمبادرة تلك كفيلة بجذب الاهتمام والمشاركات الدولية لحاجة كل الأطراف لمساندة البنيان السياسى الجديد، ودعم الاقتصاد والبنية التحتية المدمرة فى جنوب السودان، والمؤكد أن مصر بصلاتها بأشقائها العرب، خاصة فى دول الخليج قادرة على توفير دعم يحتاجه الجنوب، وهو ما سيجعل من مؤتمر شرم الشيخ لاعادة اعمار جنوب السودان،نقطة مضيئة تضاف لرصيد علاقات مصر الإفريقية وبشقيقتها دولة جنوب السودان التى هى دولة جوار ودولة ربطنا معها التاريخ والجغرافيا وحوض النيل، علما بأن جنوب السودان دولة غنية بمواردها النفطية ففيها 85% من مجمل احتياطات النفط فى كل السودان، وبها ثروات زراعية ومائية، قادرة على دعم جهود إعادة البناء والإعمار فيها وتمويل مشاريعها التنموية مستقبلا، والمطلوب أن يقف الاشقاء أولا ثم المجتمع الدولى لمساعدتها فى هذه المرحلة، وعلينا البدء فى الاتصالات الرسمية مع القيادات الجنوبية والتنسيق لعقد مؤتمر اعادة الإعمار إقليميا وعربيا ودوليا، مع دعوة شركات المقاولات وقطاعى الأعمال المصرى العام والخاص لتبنى مبادرات تسمح بمشاركة فعالة والفوز بنصيب من جهود إعادة الإعمار.
ختاما فقد حظيت جمهورية جنوب السودان بدعم دولى بعد إعلان استقلالها أو انفصالها عن الشمال، ومنذ عام2011 كانت هناك آمال تحدو كل سودانى جنوبى بعد سنين الحرب الأهلية والمعاناة، أن يقود الرئيس ونائبه وحزبهما الحاكم البلاد نحو المستقبل، ولكن بعد عامين فاق الجميع على واقع مدمر جديد، وها نحن نعود للرئيس، ونفس نائبه لنحلم من جديد بأمل جديد، وبمستقبل جديد حلمنا به من قبل، وكأننا نعود بالفعل للمستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة