مئات الآلاف من اللبنانين يعيشون معاناة مع المهدئات، وتتعدد الأسباب: غياب استقرار سياسي، أزمات اقتصادية، وطبعاً يوميات مليئة بالنفايات..
ثلاث جرعات يومية من الأدوية المهدئة للأعصاب، تحتاجها السيدة سلوى لتنجح في ممارسة حياتها ويومها بشكل "طبيعي". فـ"الحبة" هي سر "صمودها" في وجه كيل من الأزمات والضغوطات الاجتماعية التي تعيش تحت وطأتها في بلدها لبنان.
سلوى مواطنة لبنانية وصلت إلى مرحلة الإدمان بسبب مجموعة من المآسي التي تعيشها في داخل منزلها وخارجه. هي التي تعاني من تعنيف زوجها لها من جهة، ومن ضغوطات مادية واقتصادية جمّة، جعلت هذا "الدواء اللعين" كما تسميه، خلاصها الوحيد لتتابع حياتها وتقوم بالحد الأدنى من الواجبات العائلية ورعاية أولادها.
مئات الآلاف من اللبنانيين يعيشون معاناة مشابهة لحالة سلوى. تتعدد الأسباب: غياب استقرار سياسي، تدني القدرة الشرائية، حروب، أعمال شغب، افتقار الحد الأدنى من مقومات العيش.. وطبعاً يوميات مليئة بالنفايات وما تخلفه من الأمراض.
حرب تموز والتفجيرات
يعيش المواطن اللبناني وسط حالة تخبط على أثر المشاكل المتلاحقة ولا تقف عند حد تدهور الأوضاع الاقتصادية لا بل إلى ما هو أخطر من ذلك. كان لحرب تموز/ يوليو والمتمثلة في العدوان الإسرائيلي على لبنان أبرز المحطات السوداء التي انعكست سلبا" على الحالة العامة للبنانيين لما رافقها من تهجير وقتل ودمار وتراجع في كافة مرافق الدولة. إلى جانب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في شباط/ فبراير من العام 2005. أما الأحداث الأمنية المتنقلة من تفجيرات وعمليات اغتيال فقد هدت كاهل اللبنانيين ودمرت نفوسهم، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يتناولون الأدوية المهدئة.
ومن جهة أخرى، كان لانتشار المخدرات وسهولة تداولها الأثر البالغ في تعزيز الهروب من الواقع المستحيل عن طريق تناولها لكونها توازي من حيث مؤثراتها الأدوية المهدئة. وللأدوية المهدئة حكاية أخرى، صحيح أن نسبة كبيرة منها لا يوصف بدون وصفة طبية فإن بعض الصيدليات تسهل تأمين هذه الأدوية إلى بعض الزبائن من معارفها دون وصفة طبية، الأمر الذي يزيد من نسبة مدمني المهدئات.
لذا فإن ارتفاع معدل الجريمة والانتحار مرتبط بتفاقم حالة اللبنانيين النفسية وهي لم تأت عن عبث، لدرجة أننا أصبحنا نسمع وبشكل متلاحق عمليات قتل وانتحار وإشكالات فردية بين المارة والجيران لأتفه الأسباب تنفيسا لهذا الاحتقان الذي يتغلغل في النفوس.
ثلث اللبنانيين مضطربون
وصلت كمية الأدوية المهدئة للأعصاب المباعة في الأسواق اللبنانية إلى مليون و600 ألف بعد أن كانت عام 2007 نحو مليون و82 ألفا" عام 2005. هذا وقد أظهرت دراسة حول الاضطرابات النفسية قامت بها مؤسسة "إدراك" برئاسة الدكتور المتخصص في علم النفس إيلي كرم أن لبنانيا "واحدا" من بين كل 4 مواطنين تعرض لاضطراب نفسي واحد على الأقل، وأن اضطراب الاكتئاب هو الأكثر شيوعا" في لبنان من بين الاضطرابات الأخرى.
كما بينت الدراسة أنه من المتوقع أن يعاني ثلث اللبنانيين تقريبا "اضطرابا" نفسيا واحدا" أو أكثر في حياتهم قبل سن الـ75. وفي المقابل ينطبق على 25,8% من اللبنانيين أعراض المعاناة من الاضطراب النفسي لمرة واحدة على الأقل في حياتهم.
وفي المقابل، وبحسب الدراسة، يقدر أن هناك 325 طبيبا لكل 100 ألف نسمة في لبنان وهي النسبة الأعلى في البلدان العربية. وأظهرت الدراسة أن 50% من البالغين اللبنانيين يعانون عجزا حادا في حياتهم الاجتماعية اليومية في حال كانوا مصابين باضطراب نفسي أو عقلي كالقلق والاكتئاب.
ومنتحرون أيضا
ذكرت منظمة الصحة العالمية في تقريرها السنوي لمناسبة اليوم العالمي للانتحار في شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي وجود منتحر واحد في لبنان كل ثلاثة أيام. وتجدر الإشارة إلى أنه يموت سنويا "أكثر من 800 ألف شخص من جراء الانتحار مما يعني أن الانتحار يقتل شخصا" واحدا" كل 40 ثانية. وفي لبنان فقد إرتفع معدل الإنتخار بنسبة 25% وتتصدر الاضطرابات النفسية أحد أهم أسبابها والتي تقف خلفها الظروف المعيشية والمادية الصعبة التي يعيشها اللبنانيون الذين يرزحون تحت ضغوط المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد حالات الاكتئاب.
وتكمن المشكلة في أن الموازنة المخصصة من قبل وزارة الصحة للرعاية النفسية تمثل 5% فقط من موازنة الصحة العامة وهي مخصصة للاستشفاء. كما وأن التكلفة المادية لها والتي تتطلب متابعة طويلة الأمد تفوق إمكانيات جزء كبير من اللبنانيين.
الفنون تحارب المشكلات النفسية في لبنان
أصبح الرسم وسيلة لمعاينة وتشخيص ومعالجة المرضى النفسيين. وهذا النوع من الفنون بدأ يدخل عالمنا العربي وتحديدا لبنان ومصر كوسيلة لعلاج المرضى وتخفيف الضغوط النفسية ومعالجة الجريمة وهو ما يسمى بـ"العلاج بالفنون" أي "art therapy" بالإنجليزية. هذا النوع من الفنون من شأنه أن يُخرج الطاقات السلبية ويشحن الشخص بطاقة إيجابية. وتبين أن العلاج بالفن يكون فعالا جدا في حالة الأشخاص غير القادرين على التعبير عن أنفسهم بسهولة مثل الأطفال أو المدمنين أو مرضى التوحد.
الى جانب العلاج بالرسم ثمة علاج آخر بالفن وهو العلاج بالدراما، حيث لجأت إليه الممثلة والمخرجة اللبنانية عايدة صبرا التي أقامت أكثر من ورشة عمل حول التمثيل المسرحي الصامت واستهدفت من خلالها بشكل أساسي الموظفين والعاملين في مهن تتطلب مواجهة مع الآخرين.
ماذا يقول علم النفس عن هذه الظاهرة؟
يعتبر المتخصص في الأمراض النفسية والعصبية الدكتور أحمد عياش أن ازدياد هذه الظاهرة يعود إلى أسباب عديدة منها ما هو عائلي وعاطفي ومنها ما هو اقتصادي، إضافة إلى الحالة العامة المضطربة التي تستدعي عدم الشعور بالأمان والقلق الدائم مع الخوف من المستقبل في بلد يتناحر فيه الزعماء من أجل حفنة من الدولارات. ويعزو عياش أسباب تفاقم هذه الظاهرة إلى ارتدادات حرب تموز، إضافة إلى التناحر الطائفي والأحداث الأمنية. أما فيما يتعلق بالعوارض التي تظهر على هؤلاء الأشخاص فهي مختلفة ولا يمكن تعميمها نظرا للتركيبة البنيوية والفيزيولوجية لكل شخص. وبالإجمال يمكن تلخيص العوارض بما يلي:
- الحزن بسبب وبلا سبب
- الانفعال السريع لأسباب تافهة
- الحذر المفرط المبرر وغير المبرر
- الصداع والتعب بلا مجهود
- الميل للعزلة
- اضطرابات في النوم والغذاء
تتنوع الأمراض النفسية بحسب عياش، وهي قد تقع في خانة العصاب والقلق وعصاب ما بعد الصدمة النفسية وعصاب الهستيريا والهستيريا الفردية والجماعية وعصاب الطائفية.
الحالة الاجتماعية للمرضى النفسيين
يرى الأستاذ في علم الاجتماع الدكتور وفيق إبراهيم بأن تفاقم الحالة النفسية للبنانيين يعود إلى الحالة الأمنية واللا استقرار الذي يفرض نفسه على اللبناني، سواء كان على الصعيد السياسي أم الاقتصادي. ويؤكد إبراهيم بأن لبنان يمر بأسوأ مرحلة اقتصادية منذ الاستقلال حتى اليوم في ظل ارتفاع معدلات البطالة وتدني معدلات الرواتب. الأمر الذي يدفع المواطن إلى اللجوء للمخدرات والأدوية المهدئة.
وعن مدى تفاقم هذه الحالة مع مرور الوقت، يقول: "حالة المواطن أمام تزايد مستمر ومخيف لأن الدولة أفلست ولم تعد قادرة على حل أي مشكلة، نحن أمام دولة مفلسة ليس لديها أية إجابة لأي موضوع، لذلك نحن ذاهبون إلى انهيار خطير جدا".
aXA6IDMuMTQyLjU0LjEzNiA=
جزيرة ام اند امز