مسرحية اللبنانية عايدة صبرا.. الكوميديا عندما تُفكّك وتفضح
"الست نجاح والمفتاح" البساطة الاحترافية في صوغ اللغة والأداء
تروي الممثلة والمخرجة المسرحية اللبنانية عايدة صبرا في عملها المسرحيّ الجديد فصولاً من أحوال بلد وناسه المقيمين في خرابهم الذاتيّ
بلغة مبسّطة تحتمل عمقاً إنسانياً واقعياً بليغاً، تروي الممثلة والمخرجة المسرحية عايدة صبرا -في عملها المسرحيّ الجديد "الست نجاح والمفتاح"- فصولاً من أحوال بلد وناسه المقيمين في خرابهم الذاتيّ الفرديّ والعام.
تقول عيشاً، وتبوح بمكنونات نفوس تنكشف على خشبة المسرح، من دون أن تفقد رونق نضارتها الحيّة، المنبثقة من قسوة اليوميّ، وانهيار مُثُلٍ وقواعد كان البناء الاجتماعي يتماسك بفضلها، ويُشكّل حضورُها في أنماط العيش سلوكاً متوافقاً عليه.
لكن هذا كلّه يضمحل في المبنى الحياتيّ الراهن لبيروت وناسها، لاشتداد قوّة الفساد المتنوّع، ولتغلغل الاهتراء في مفاصل العيش وفضاءاته.
وهذا -إذ ينتج من غياب كلّ مراجعة نقدية جذرية في الاجتماع اللبناني منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، على مستوى الجماعة- يجد في نتاجات ثقافية مختلفة مكاناً بارزاً له، طرحاً وسجالاً نقديين.
مع عايدة صبرا، يتحوّل الطرح إلى سلسلة مفارقات مضحكة، تمتلئ بسخرية مريرة من وقائع الأحوال الفردية والعامّة المزرية؛ ويُصبح السجال سياقاً سردياً سلساً وجميلاً لحكايات مستلّة من يوميات أناس عاديين.
بالإضافة إلى هذا كلّه، وضمن الإطار اللبناني العام، تظهر "الست نجاح والمفتاح" في مشهد مسرحيّ لبناني يريده صانعوه استمراراً لسجالٍ نقديٍّ متنوّع، هو جزءٌ من ثقافة المراجعة والتفكيك والبحث المعرفي في حلول محتملة.
غير أن عايدة صبرا، وإن تخرج مسرحيتها الجديدة من تفكير سجاليّ كهذا منبثق من عيشها اليومي ومعاينتها الدائمة أحوالاً وانفعالات وحالات، تحافظ على بساطة انفعالية جميلة وعفوية في مقاربتها جوانب أساسية من العيش اللبناني، متّخذة النَفَس الكوميدي الساخر ركيزة بوح، وجاعلةً من الضحك مدخلاً إلى مزيد من تأمّل أمام مرآة الذات.
البساطة أساسية في الكتابة، كما في الإخراج والديكور والأداء والتواصل والحوار والنبرة.
المبالغة في تضخيم شخصيات وطريقة أداء أدوارها تبدو جزءاً من تكبير صورة حقيقية لمبالغات شتّى يمارسها لبنانيون عديدون في شؤون حياتهم وأحوالهم، لكنها مبالغة تبقى أسيرة تمثيل تبسيطي -والتبسيط هنا ليس "تتفيهاً" أو "تسطيحاً"، بل محاولة جدّية لردم هوّة ما بين حقائق اليومي والمشاهدين- ينطلق من تدريب مهنيّ حِرَفي لغالبية الممثلين، كي يُسهِّل تواصلاً فعليًّا بين فداحة الشقاء اللبناني وجمالية البساطة الاحترافية في صوغ اللغة والقول والأداء.
تمثيل تبسيطيّ يهدف إلى إلغاء نخبوية منبوذة، أو خطابية جوفاء، أو تنظير إيديولوجي، أو بكائيات ممجوجة.
وهذا، إذ ينجح النصّ في التنصّل منه، يُصبح -على مستوى الإخراج- نقيض حيوية نابضة في لعبة التفكيك المطلوب: تفكيك وقائع الحياة اليومية اللبنانية، وصولاً إلى تنبيه مبطّن يختفي في طيات كوميديا سوداء، تُضحك من دون إسفاف، محوّلة الضحكة إلى لحظة صمتٍ ذاتيّ يُفترض بها أن تكون مدخلاً إضافياً إلى محاورة الذات هذه بأمورها.
العلاقات الخادعة بين جيرانٍ مقيمين في مبنى واحد لن تصمد طويلاً في خديعتها، لأن حدثاً "عادياً" يُطيح بدفاعاتها، فينهار كلّ شيء ببطء وهدوء، كاشفاً (الانهيار) عوراتٍ يُدركها كثيرون، لكنهم يُخفونها في طيات ابتسامات خبيثة، فإذا بالست نجاح (عايدة صبرا) تُمعن فتكاً بها، برصانة الابنة الأصيلة للمدينة، وبحذق العفوية القوية فيها، وبدهاء المجرِّبة غير المحتاجة لا إلى علمٍ ولا إلى ثقافةٍ ولا إلى أي شيء غير فطري، كي تُدرك بشاعة الاهتراء الحاصل.
والحدث "عاديّ" فعلاً، في بلدٍ يعاني أحداثاً شتّى في يومياته: انقطاع التيار الكهربائيّ فجأة، فيتوقّف المصعد النازل بالست نجاح إلى مدخل البناية صباح يوم عاديّ أيضاً.
حدث عادي جداً يُشكّل بداية التعرية القاسية والعميقة والمتوغلة في أحشاء الجسد والروح، بلكنة بيروتية، ولهجة تعكس مرارة الحكايات المخبّأة هنا وهناك، مع أنها معروفة وواضحة ومُعاشة. حدث عادي يحتاج، في اللحظة نفسها، إلى ما يُكمِّله، وما يُكمِّله ينكشف في نهاية المطاف، متمثّلاً بنسيانٍ يؤدّي إلى مسارات متداخلة ومتصادمة ومتكاملة، قبل أن "ينفضح" الأمر، وينتهي المأزق، فتسقط الست نجاح ضحية حدث عادي آخر، يُصبح أساسياً في سلوك يومي: إطلاق الرصاص عشوائياً في مناسبات مختلفة، والناس يُكملون حياتهم اليومية المهترئة واللامبالية، "كأن شيئاً لم يكن".
لن يكون العاديّ أقلّ من استهزاءٍ ممن يُصادر مصائر الناس، بالناس وأحوالهم، والعاديّ كثيرٌ ومتنوّع، مع أنه غير طبيعي في بلد مبني، للأسف، على كلّ شيء غير طبيعي (وغير الطبيعي يُصبح عادياً): انقطاع التيار الكهربائي، إطلاق الرصاص عشوائياً، خديعة العلاقات القائمة بين الناس، الابتزاز والرشى والاحتيالات، فضيحة الإعلام المرئي في انفضاضه عن أبسط قواعد المهنة، "الضرائب" المتوجّب دفعها لقطاعٍ خاص يفرض نفسه على الناس على مستوى حقوقهم المعيشية اليومية، وهي ضرائب لا تلغي شبيهتها المطلوب من الناس أنفسهم دفعها للدولة، وغيرها الكثير.
هذا، عملياً، استهزاء بالناس، واستخفاف بحقوقهم. لكن "الست نجاح والمفتاح"، إذ تروي هذا كلّه، تضعه في موقع الرافض له، من دون تحييد الناس جميعهم عن كلّ مسؤولية يتحمّلونها هم أنفسهم إزاء الخراب الفظيع الحاصل لهم، بصمتهم ولامبالاتهم وانهماكهم بذواتهم ومصالحهم الضيّقة.
سرد الحكايات كلّها ليس خطابياً، بل كوميدياً، والكوميديا محفورة في طيات النص والحوارات، وفي مسالك الأداء والنبرة، وفي الفضاء الإنساني المرتبك والمدمَّر أيضاً.
كوميديا مطعّمة أيضاً بقهرٍ تُظهره عايدة صبرا في كتابتها النص وإخراجه، وفي مشاركتها التمثيل مع شباب يحوّلون حضورهم المسرحيّ إلى نماذج مستلّة من وقائع وحقائق.
كوميديا تتحرّر من فعل الضحك المجاني، لشدّة توغّلها في أعماق المآزق، وفي كيفية سردها المآزق، وفي آلية مواجهتها المآزق.
كوميديا ترتكز على بساطة، فتصنعان معاً عملاً يُصيب مكامن ألم وقلق وارتباك، ويروي فصولاً من انهيار بلد وناسه.
"الست نجاح والمفتاح": تأليف وإخراج وبطولة عايدة صبرا، تمثيل: هاني الخطيب وضنا مخايل وباسل ماضي وإيلي نجيم وسهى نادر وعبد الرحيم العوجي، سينوغرافيا: حسن صادق، الإضاءة: علاء ميناوي، هندسة الصوت: باسل قاسم وياسر مروّة، حتى 12 ديسمبر 2015، على خشبة مسرح "المركز الثقافي الروسي" (بيروت).