مسامرات "رمضان".. من أحاديث الكتاب والأدباء (1)
تتجمع مادة غزيرة وغير مسبوقة تركها لنا رواد النهضة الأدبية الحديثة في كتبهم المختلفة وسيرهم الذاتية ومقالاتهم المتفرقة عن "رمضان".
يمثل شهر رمضان في السياق التاريخي المصري والعربي، بؤرة لنشاط ثقافي متوهج، فمنذ ظهور الإسلام وعلى امتداد ما يزيد على الألف عام، تشهد عواصم العالم الإسلامي، وفي القلب منها القاهرة، حالة من السيولة الثقافية، وعلى نحو خاص في شهر رمضان.
لكن هذه السيولة ليست جديدة؛ بل هي امتداد لتقليد قديم تطور عبر العصور واتخذ أشكالًا وصورًا متنوعة ومتعددة. في مصر وحدها، ومنذ أن فتحها عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي، وأصبحت منذ ذلك الحين "إسلامية" تقع في القلب من العالم الإسلامي، وهي تنتج أدبًا وفكرًا وفقهًا وفنًا، وتنشأ بها مراكز ثقافية صاخبة على امتداد طولها من الإسكندرية إلى أسوان وبكامل عرضها من سيناء والبحر الأحمر إلى مرسى مطروح والوادي الجديد. ويتألق الشهر الكريم في مصر، ثقافيًا، بإبداعات وأحاديث، مسامرات ومحاورات، أبدعها كتاب وأدباء ومفكرون.
يظل رمضان بكل إرثه الثقافي والفني والإبداعي والفلكلوري، في مصر، ينطوي على "خصوصية" لا يوجد لها مثيل ولا شبيه ولا نظير بين كل بلدان العالم الإسلامي، شرقه وغربه، "خصوصية" حفظ لنا ملامحها وسجل تفاصيلها ودوّن مفرداتها ورصد إبداعها أعلام النهضة الفكرية والأدبية والثقافية في مصر خلال القرن الماضي، كتاب وأدباء وفنانون، بقامة طه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات وزكي مبارك ومصطفى صادق الرافعي، ومن بعدهم توفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب ومحفوظ، وآخرون.
وتتجمع تحت أيدي الباحث المدقق مادة غزيرة وغير مسبوقة تركها لنا رواد النهضة الأدبية الحديثة في كتبهم المختلفة وسيرهم الذاتية ومقالاتهم المتفرقة عن "رمضان"، أو في "رمضان" أو تتصل بسبب من الأسباب بهذا الشهر، سلوكًا وشعائر، طقوسًا وثقافة، فيكاد يكون كل واحد منهم قد سجل انطباعاته وذكرياته، في فترة من فترات حياته الباكرة، عن الشهر الفضيل، وما كان يتميز به حضوره من اختلاف وتنوع في السلوك والعادات والاحتفال، وتناول كل واحد منهم ببحثٍ وتفصيلٍ جانبًا أو زاوية أو موضوعًا يتصل بالشهر الكريم ليشبعها بحثًا وتأصيلًا ودرسًا، لتتنوع المادة التي قدمها هؤلاء الرواد وتمثل في مجموعها "كنزًا" تاريخيًا ومعرفيًا وفلكلوريًا، لم يقم أحد من الباحثين والدارسين المتخصصين بالالتفات إليه والاشتغال عليه.
سنجد مثلًا طه حسين في «الأيام» قد كتب شيئًا عن حلول الشهر الكريم وهو طفل في قريته بالصعيد، ورصد كعادته وبأسلوبه الفاتن وموسيقاه اللافتة، مظاهر السلوك والتغيير في العادات التي تطرأ على الأسرة خلال الشهر الكريم، وتكاد تكون المشاهد التي سجلها طه حسين في أيامه محفوظة من كثرة ما رجع إليها الكتاب واستشهدوا بها. لكن طه حسين كتب عن رمضان في غير موضع من كتبه الأخرى، كتب فصلًا رائعًا عن فلسفة الصيام ومغزاه في كتابه الجميل «مرآة الإسلام»، كما كتب فصلًا بديعًا بعنوان "إجازة" في كتابه «ألوان» سجل فيه شيئًا من حياة الأزهريين وسلوكهم ونفسياتهم في رمضان، وفي كتابه «أحاديث» أيضًا.
أما الرائد الكبير، مؤرخ الحياة العقلية للمسلمين في عصورها الأولى، الأستاذ أحمد أمين، صاحب الموسوعة الضخمة «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فكان من الذين أولوا "رمضان" عناية كبرى لا على صعيد تسجيل التجربة الذاتية فقط التي دون منها جانبًا كبيرًا في سيرته الذاتية القيمة «حياتي»، بل بالمجهود الذي بذله للتأصيل والتأريخ لجانب شديد الأهمية والقيمة معًا، وهو الجانب الثقافي الفلكلوري للشهر الكريم، ذلك الذي لم يلتفت أحد إليه قبل أحمد أمين، ليقوم في كتابه الرائد «قاموس العادات والتقاليد والتعابير الشعبية» بجمع وتصنيف مادة رائعة عن الجانب الشعبي من الشهر الكريم، مُعْتَقَدًا وطقسًا وفنًا وسلوكًا، فنراه يخصص فقرات في قاموسه لأهم وأشهر مفردات الثقافة الرمضانية التي عاينها المصريون واحتفلوا بها دون أن يهتموا بمعرفة شيء عنها أو النظر في أصلها أو البحث عن جذورها..
من هذه المواد الفريدة ما كتبه عن "الدِّين" في باب الدال، وتناول فيه شيئًا عن الجانب الروحي والاحتفالي لفريضة الصوم في حياة المصريين، وما كتبه من مواد عن "المسحراتي"، و"الكنفاني"، و"الحلوجي"، و"الشربتلي"، و"النُّقَل" (الياميش)، و"وحوي يا وحوي".. إلخ.
ولم يكتف أحمد أمين بالمجهود الرائع الذي بذله في قاموسه، والمادة التي ضمنها كتابه، بل قام بكتابة مقالات عديدة خلال ترؤسه لمجلة "الثقافة"، إحدى شوامخ الصحافة الثقافية في عصرها الذهبي في النصف الأول من القرن العشرين، كانت عبارة عن افتتاحياته للأعداد التي تصدر مع حلول الشهر الكريم، إضافة إلى كتابته سلسلة أخرى من المقالات أو الأحاديث تتناول موضوعًا يمس الجانب الروحي من العبادات والطقوس الرمضانية، جمعها فيما بعد في كتابه «فيض الخاطر» الذي يقع في عشرة أجزاء.
التقليد ذاته، كان سمة سار على نهجها معظم الكتاب الكبار في ذلك الحين، خاصة من الذين كانوا يصدرون دوريات أدبية وثقافية عالية القيمة والأسلوب، ومنهم الرائد الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة" العريقة، أشهر وأهم الدوريات التي شهدها تاريخنا الثقافي في تلك الفترة الزاهرة؛ إذ كان الزيات يخصص أعدادًا خاصة ومستقلة احتفالًا بالشهر الكريم يشارك في تحرير موادها وكتابة مقالاتها وموضوعاتها المميزة كبار الكتاب والأدباء والمثقفين..
aXA6IDMuMTQxLjI5LjE2MiA= جزيرة ام اند امز