"العين" شاهدة.. بريطانيا تطلّق الاتحاد الأوروبي بالثلاثة
الناخبون البريطانيون قلبوا الطاولة على بلدهم وعلى الاتحاد الأوروبي معاً رموا يمين الطلاق بوجه شركائهم في القارة، بالثلاثة
حسم الناخبون البريطانيون أمر بلدهم، فقلبوا الطاولة عليها وعلى الاتحاد الأوروبي معاً، رموا يمين الطلاق بوجه شركائهم في القارة، بالثلاثة: فلا تعاون اقتصادي وفق اشتراطات الاتحاد الأوروبي، ولا تنسيق سياسي بما يعارض المصالح البريطانية، ولا علو للقوانين الأوروبية الاتحادية على القوانين الوطنية البريطانية.
قبل يوم واحد من نزول 46 مليون بريطاني إلى صناديق الاستفتاء لبّت مصير ارتباط بلدهم بالاتحاد الأوروبي، وقف ناشط على جسر المشاة فوق الطريق السريع "إيه 40"، الذي يربط غرب لندن بوسطها، يطلق هتافات تدعو لتأييد الخروج من الأسرة الأوروبية.. صوته الذي امتزج بهدير السيارات والشاحنات العابرة إلى مقاصدها، كان له أثره.
هذا بالضبط ما كان يحدث في المدن والشوارع البريطانية، منذ مارس/ آذار الماضي، عندما بدأت حركة الخروج من الاتحاد الأوروبي مرحلتها الثانية بالنزول إلى الشوارع لإقامة أكشاك دعائية في المراكز التجارية، مثل شارع أوكسفورد وتوزيع المنشورات ودعوة المارة إلى التوقف أمام الكشك والحديث مع القائمين عليه لتثقيف أنفسهم بمنافع الخروج من الاتحاد الأوروبي.
انسلت أصوات هؤلاء وسط زحمة الناس وانشغالاتهم، وتركت أثرها عليهم، وعندما حاول المؤيدون لبقاء بريطانيا عضوا أوروبيا فاعلاً تقليد خصومهم النشطين، بدت أصواتهم وكأنها رجع صدى باهت.
لهذا كان لافتا تعليق وزيرة الصحة في حكومة ديفيد كاميرون بأن هذه المعركة هي معركة الأصوات العالية، فقد صرخ سياسيون كثر، خصوصا من الجهة الداعية للخروج، التي أطلقت على نفسها اسم "بريكزيت"، نداءات حماسية لتأليب الرأي العام ضد الجيران الأوروبيين، لكن كل تلك النداءات اعتمدت على الصوت والصدى ولم تعتن بتقديم حجج جدية لتدعيم الدعوة إلى الطلاق مع أوروبا.
ففي كل التصريحات التي أطلقها نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال الأكثر حدة في الدعوة للخروج، لم تزد حججه عن مسألتين: التوفير المالي الذي سينجم عن مغادرة الاتحاد الأوروبي، وتجنب مزيد من الأعباء التي تسببها أفواج النازحين عبر الحدود الأوروبية، وعلى هذا الوتر عزف عمدة لندن السابق بوريس جونسون، وغيره من قادة حزب المحافظين.
خلال الأسابيع الماضية تلقيت عشرات الرسائل الإلكترونية، بالإضافة إلى مطويات وزعت بالبريد أو على نواصي الشوارع، تفصّل أسباب الدعوة للخروج من أوروبا، بأنها توفر على الخزينة البريطانية 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعيا، وهو مبلغ كاف لبناء مستشفى.
كما أن الخروج يحرر بريطانيا من الخضوع للقوانين الأوروبية، فيما يتعلق بقضايا الهجرة واللجوء، ويعفي لندن من الأثقال التي أصابت الاتحاد الأوروبي بعد انضمام دول ضعيفة من شرق أوروبا إلى المجموعة، التي تبدو عرضة إلى مزيد من الأثقال مع استئناف محادثات انضمام تركيا إلى منطقة اليورو.
طبعا لم يناقش أحد حكومة لندن بأن عجزها عن بناء مستشفى أسبوعيا، ليس بسبب ما تدفعه نظير عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ولكن لأن له علاقة بسياسات اتفاقية أخرى ذات طابع داخلي أحيانا وخارجي غالباً.
لكن النقاش كان لا بد أن يتشعّب باتجاه الحمولات الناتجة عن مسألتي الهجرة واللجوء، فهي حمولات تفوح منها رائحة عنصرية صريحة، ولعل أبرز مثال على ذلك مقتل جو كوكس عضوة البرلمان البريطاني عن حزب العمال المؤيد لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والتصريحات التي أطلقها القاتل توماس مير أمام المحكمة: "الموت للخونة، الحرية لبريطانيا".
حتى بالمنطق السياسي، فإن الحجج الذي قدمها المعسكر الأوروبي، خصوصا في أوساط حزب العمال، تميزت هي الأخرى بنزعة تحاكي الذاتية البريطانية، بالتركيز على أن بقاء بريطانيا ضمن الأسرة الأوروبية يمنع ألمانيا (العدو أو المنافس التاريخي لبريطانيا) من الانفراد بالمجموعة الأوروبية وتغيير مكامن القوة فيها لصالحها.
لقد نتج عن الحملات الدعائية خلال الأسابيع الماضية، والضخ الإعلامي الذي رافقها، انقسام حاد، غير مسبوق في بريطانيا، ولكن خطوط هذا الانقسام لم تكن شديدة الوضوح.
وليس من المبالغة القول إنها تشبه الانقسامات العصبوية التي تعصف بمجتمعات من العالم الثالث: يؤيد المؤيدون، ويعارض المعارضون، بفعل نزعات عاطفية وليس بتأثير قضايا عامة.
هكذا تقتل نائبة بفعل التحريض الانتخابي، وهكذا تخرج كل الصحف البريطانية، صبيحة يوم الاستفتاء بمانشيتات تحريضية للناخبين كل في المعسكر الذي تؤيده، وهكذا أيضا تصبح المبالغة التي حملها عنوان صحيفة "الصن" الشعبية بتشبيه يوم الاستفتاء بيوم الاستقلال، لعباً مكشوفاً على المشاعر الوطنية.
بهذه الخلفية، يمكن فهم أن الشريحة الأكبر من الناخبين المؤيدين لمعسكر البقاء في أوروبا، كانت من أبناء الجاليات المهاجرة قديما وحديثا إلى المملكة المتحدة، وليس بالضرورة من المؤيدين لحزب العمال. وهؤلاء يتوزعون على الجاليات الهندية والباكستانية والأفارقة والأوروبيين الشرقيين، ومعهم تقف أغلبية المجنسين العرب، وهم في كل الأحوال ليسوا رقما حاسما في النتيجة.
عندما تصوّت بريطانيا، ولو بنسبة ضئيلة (51.9 ضد 48.1 %)، لصالح الخروج من المجموعة الأوروبية (وهي بالمناسبة غير كاملة العضوية باعتبار أنها أصلا خارج اتفاقية شنجن وخارج منطقة اليورو)، فإنها تصوت لخيار الانحصار داخل الحدود الجغرافية للجزيرة.
فمنذ أن خسرت المملكة المتحدة إمبراطورتيها مترامية الأطراف، بعد الحرب العالمية الثاني، أخذ حضورها يتقلص بالمعنى الجغرافي والحيوي، ولولا اختيارها الاصطفاف خلف الولايات المتحدة الأمريكية عبر المحيط الأطلسي، وإلى جانب جاراتها الأوروبيات عبر بحر المانش، لأصبحت رهينة لعقلية ونفسية الجزيرة.
اليوم تصوت بريطانيا لصالح ذلك العقل الكامن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تختار أن تبقى الجزيرة التي تخشى كل ما هو قادم من البر الأوروبي. وبالمناسبة فإن هذه النظرة هي نفسها التي جعلت رئيسة الحكومة مارغريت ثاتشر خلال ثمانينيات القرن الماضي، تؤخر الانضمام إلى أوروبا، بنفس الذرائع التي يستخدمها خلفاؤها اليوم. في ذلك الحين انقلب رفاق ثاتشر في حزب المحافظين على سيّدتهم الحديدية من أجل الالتحاق بالقطار الأوروبي. اليوم ستشمت ثاتشر من قبرها بأولئك الذين غادروا جزيرتهم الضيقة إلى برّ أضيق.
فجر هذا اليوم (الجمعة)، لم تكن النتائج النهائية للاستفتاء قد خرجت، لكن نايجل فاراج استبقها بخطاب النصر بين أنصاره، قال لهم إنه تجرأ على الحلم، وإنه كان واثقاً من النصر، وإن هذا اليوم هو يوم استقلال لبلاده.
لكن فاراج، وهو يتحدث بهذه الثقة تجاهل الإشارة إلى النتيجة الأولى الناجمة عن هذا "النصر" والتي تمثلت بهبوط مريع للجنيه الإسترليني أمام الدولار، ابتداء من البورصات الآسيوية التي تستبق غيرها إلى السوق باعتبار فارق التوقيت.
وتجاهل أن عشرات الشركات والمصارف العملاقة سوف تتخلى عن مكاتبها الرئيسية في لندن بحسب تقارير رافقت حملة "بريكزيت"، وتجاهل ما يتحدث به الخبراء عن هزة سوف تصيب السوق العقاري، واختلال سوف يلحق بالميزان التجاري مع أوروبا وعبرها.
بهذه النتيجة، سوف تواجه بريطانيا "أزمة خروج" داخلية، إذ ليس من المستبعد أن يعود شبح الانفصال الكياني وإغراءاته إلى مكوناتها.
فالخروج من أوروبا سيشجع الانفصاليين الأسكتلنديين على إعادة الكرّة لتحقيق حلمهم التاريخي، بعدما فشلوا بتحقيقه في استفتاء عام قبل أشهر، وهؤلاء سيشجعون نظراءهم في ويلز وفي إيرلندا الشمالية، والملاحظ أن نسبة التصويت العالية في هذه المقاطعات كانت لصالح البقاء في أوروبا.
يوجه الخروج البريطاني من أوروبا ضربة مسمومة لفكرة الاتحاد الأوروبي على الصعيد النظري، بنفس القوة التي يوجهها إلى هيكل الاتحاد.
فنزعات الانفصال التي شهدتها بريطانيا وجدت شبيهات لها في عديد الدول الأوروبية، إيطاليا وفرنسا وإسبانيا واليونان على وجه الخصوص، ومن شأن نجاح الخروج البريطاني أن ينفخ روحا إيجابية في دعاة الوطنيات الانعزالية في أوروبا.
فكأن "الخوارج" البريطانيين يقدمون درسا لأشباههم من الأوروبيين، عن الحاجة إلى الطلاق، وظروفه واشتراطاته واستحقاقاته حتى ولو وقعت تحت خانة أبغض الحلال.
aXA6IDMuMTM3LjE1OS4xNyA= جزيرة ام اند امز