
كأنها رحلة الشتاء والصيف، وما بينهما، تلك التي دونها جمال الشحي في كتابه "أنا والعم سام".
كأنها رحلة الشتاء والصيف، وما بينهما، تلك التي دونها جمال الشحي في كتابه "أنا والعم سام". الكاتب والناشر الإمارتي، مؤسس دار كتّاب، لخص تجربة امتدت طيلة عشرة أعوام في الولايات المتحدة الأميركية، على امتداد 177 صفحة، استعاد فيها وقائع من يوميات طالب جامعي تقلبت به الأحوال، واقترب من تفاصيل الحياة الأميركية معلوماتيا وتحليليا، وناقش الإشكاليات التي يواجهها كل عربي تضعه ظروف شخصية أو عامة أمام تحدي "الصدمة الحضارية" الأميركية.
ينضم الشحي بكتابه هذا إلى قافلة من الكتّاب العرب، كان المعطى الأميركي حاضراً بقوة في مخيالهم الروائي. يتقدم هؤلاء المصري صنع الله ابراهيم بعمله المبهر "أمريكانلي" الذي وثّق فيه خاصيات تركيبية في العقل والبنية الأميركية. وهو ما لم يفعله علاء الأسواني في روايته "شيكاجو" التي بقيت مجرد "حدوتة مصرية" على ضفاف المجتمع الأميركي، المجتمع الأكاديمي على وجه التحديد. وهو ما فعلته أيضا ميرال الطحاوي في روايتها "بروكلين هايتس"، وسار على نفس المنوال أيضا عز الدين شكري فشير في عمله الروائي "عناق عند جسر بروكلين".
هذه الإشتغالات المصرية على الحضور الأميركي عند المغتربين العرب، أو العكس، سوف تنتقل مع العراقية إنعام كجه جي إلى مستوى آخر، هو أزمة الهوية كم تبدت في روايتها "الحفيدة الأميركية". فيما تتبع الكاتبة الفلسطينية الأردنية ليلى الأطرش في روايتها "رغبات.. ذاك الخريف" أحلام الباحثين عن الحلم الأميركي الضائع، وهو ما فعله اللبناني ربيع جابر، على نحو أكثر عمقا، في روايته "أميركا" بصيغة سردية رصدت تحولات الناس الطارئين في المجتمع القار.
كتاب جمال الشحي، الذي يأتي تصنيفه ضمن أدب الرحلات، انطوت صفحاته على جلّ الأغراض إن لم يكن كلها، التي دفعت الذين سبقوه إلى إنجاز سردياتهم ذات الطابع الأميركي. ففي "أنا والعم سام" مقاربات معلوماتية وتحليلية للواقع الأميركي، والتقاطات من واقع المبتعثين العرب في جامعات الولايات المتحدة، كما إنه يقف وجها لوجه أما مشكلة الصدمة الحضارية وأزمة الهوية.
يبكر الشحي منذ الصفحات الأولى في تأكيد خروجه معافى من التجربة: "لقد ربحت تجربة حياة كاملة أعطيت لي. فرصة عمر جديد سنحت لي، وكنت محظوظا جدا، لأنني اقتنصتها بجدارة". (ص 15)
لكن هذا الربح الناجز، لم يكن سهلا، ولم يكن خالصا. كانت هناك أثمان لا بد أن تدفع. يوغل الشحي في هذا الصدد في تسجيل الوقائع، من أوجه المعاناة التي خضبت حياته وغيره من المبتعثين: من الخيارات الأكاديمية، إلى عبور حاجز اللغة، إلى مشكلة تأمين تكاليف الحياة، إلى مواجهة ما هو متوقع في مجتمع تلتقي فيه وتتناقض الألفة والغربة. هنا تتحول الأشياء وتصبح أشد المستحيلات أكثر معقولية. يروي الشحي أن زميل غرفته في السكن الجامعي كان يهوديا أميركياً. يقول: "لم أكن أعرف حينها الفرق بين اليهود الأميركيين والإسرائيليين. فكانوا كلهم يهود، كما نقول في الشرق الأوسط. وكنت أحمل بداخلي فكرة سلبية مسبقا عن اليهود، حالي هو حال أي عربي يعرف أن أرضه مغتصبة، ولم لا، وقد تربينا على ذلك، وكبرنا مع القضية. والآن هذا الذي ينام في السرير المقابل، ديانته اليهودية، ويغلق علينا باب واحد، وننام تحت سقف واحد، ولا أعلم ماذا أفعل، فهل أخاف منه، أم هو من يجب عليه أن يخاف مني؟ ولكن بفترة قصيرة جدا، أصبحنا أصدقاء، ولا تسألني كيف حصل ذلك، إذ كل ما أعرفه أنه بات مترجمي الخاص، ومعلم اللغة، وكان يساعدني على حل واجباتي بطيب خاطر". (ص51)
مثلما تنقل جمال الشحي بين فصول السنة والولايات والمدن وجامعاتها يتنقل جمال الشحي بين قضايا الاغتراب، يعرضها ويرصد أثرها في النفس والسلوك، ويتلمس مفاعيلها في تطور الشخصية سواء على صعيد التحصيل العلمي أو المعرفي، أو في إطار السلوك العام، وهو يختم هذا التجربة الطويلة، بهذا الكتاب الممتع في تناوله ولغته، والطريف إلى حد السخرية في المواضع التي تحتمل التباسط، ويضيف إلى سلسلة المنجز الكتابي العربي حول التجربة الأميركية أو "الحلم الأميركي" كتاباً يكملها ولا يقفلها، فالتجربة ما زالت مفتوحة و"الحلم الأميركي" ما زال يراود الكثيرين. منهم قد يصيبه الفشل، ومنهم من يكون النجاح من نصيبه.. فقد عاد الشحي من الولايات المتحدة لكي يصبح كاتباً إماراتيا معروفا، وناشراً مرموقاً، وأيضا "بائع قهوة" على الطريقة الأميركية كما يسمي نفسه.. بما يجنبه الوصف العربي: "قهوجي"!
aXA6IDIxNi43My4yMTYuOTAg جزيرة ام اند امز