"العين" ترصد رحلة تيريزا ماي من "ليلة السكاكين" لمقعد "تاتشر"
مشرحة الحساب مزقت جونسون وكاميرون.. ورياح الوحدة الأوربية تحرك اللعبة
تقرير يرصد رحلة تيريزا ماي إلى مقعد رئاسة وزراء بريطانيا
ما كادت نتيجة الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تظهر، ويهلل لها الفرحون ويغضب الغاضبون، حتى خرجت الصحف البريطانية في اليوم التالي، بعناوين مثيرة: مثل: "إنها ليلة السكاكين!".
كان ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء، قد أقر للتو بالهزيمة وأعلن أنه سيستقيل لكي يترك السفينة لربان آخر يقودها إلى بر الأمان، دون أن يلزم نفسه بفترة محددة. بعد ساعات، تلقيت كما غيري على بريدي الإلكتروني نشرة إعلامية من حزب المحافظين تحدثت عن بضعة أشهر، ستكون فترة انتقالية تفصل بين مغادرة كاميرون مقر رئاسة الحكومة في داوننج ستريت واستلام خلفه.
في هذا الوقت كان اسم بوريس جونسون، قد لعلع في سماء الميديا البريطانية باعتباره الخليفة المؤكد. فهو القائد الميداني الفعلي لحملة “بريكسيت” المطالبة بخروج المملكة المتحدة من الأسرة الأوروبية. فقد صدح على مدى أشهر بتصريحات نارية، استقطبت الرأي العام، وأججت عواطف “الاستقلاليين” بشكل قارب التحريض العنصري، باللعب على وتر الوطنية، وشاعت نكتة في الأوساط الشعبية بأن جونسون قد اختار فعلا البزة الرسمية التي سيرتديها لدى زيارته للملكة في لقاء التكليف بتشكيل الوزارة.
لكن فجأة وقع ما لم يكن بحسبان قائد “البريكست”، فموجة التغيير العاصفة التي قادها لم تؤت أكلها في المستويات القيادية داخل حزب المحافظين، وخصوصا بين صفوف هيئته البرلمانية، فقد تداعى هؤلاء إلى اجتماعات متواصلة في مقر الحزب، استمرت حتى الهزيع الأخير من الليل، وضعوا خلاله بوريس جونسون فوق المشرحة.
عملت سكاكين الأعضاء المجتمعين في تقطيع أوصال شخصية جونسون الذي مثل بينهم كمنتصر، وغادرهم منتوف الريش، فهو بحسب آراء زملائه “شعبوي” يصلح لقيادة الحملات في الشوارع، ولكنه عاجز عن ملء فراغ “10 داوننج ستريت”، وهو بلا خبرة سياسية على صعيد العلاقات الخارجية والدولية، وهو أيضا لا يتمتع بمؤهلات ديبلوماسية، كما أنه غير قادر على تحقيق إجماع داخل حزبه، فكيف إذا كان المطلوب في هذه المرحلة تخليص المجتمع البريطاني من آثار الانقسام الذي أحدثته مسألة الانفصال.
خسر بوريس جونسون معركته هذه المرة من أجل الوصول إلى رئاسة الحكومة، لكنه لن يخسر الحرب، إذ سرعان ما سيصبح وزيرا للخارجية في الحكومة الجديدة.. فهل يعد ذلك مؤشرا على استمرا تطاحن مركز القوى داخل حزب المحافظين؟
بالتأكيد من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، لكن لا بد من أن يكون هناك رابح في ليلة السكاكين تلك، فمن هو؟ دارت الرؤوس بين المجتمعين لتستقر على المرأة صاحبة السيرة الذاتية الثرية، تيريزا ماي، ابنة القس الإنجليكاني، وخريجة جامعة أوكسفورد، والإدارية المرموقة في بنك انجلترا المركزي، والنائبة النشيطة عن دائرة ميدنهيد من أعمال بيركشاير، والأمينة العامة لحزب المحافظين في فترة عصيبة (2002 ـ 2003)، والوزيرة متعددة الوظائف في حكومة الظل أيام المعارضة، إلى أن أصبحت مع ديفيد كاميرون، حليفها القوي، وزيرة للداخلية لعدة سنوات.
حققت ماي كل ذلك بفضل “تصميم شرس” تتميز به على حد تعبير “دايلي تليجراف”، ما جعل الصحافة البريطانية، ومعها الرأي العام بشكل شبه إجماعي، ينظر إليها باعتبارها “السيدة الحديدية” أو مارجريت تاتشر الجديدة.
بناء على سياق الأحداث هذا يمكن القول إن تيريزا ماي وصلت إلى “10 داوننج ستريت” بالطريقة التي خرجت بها مارجريت تاتشر من مقر الحكومة قبل حوالي ربع قرن، وتحت العنوان نفسه، وإنما من موقع مختلف.
الذي حدث يومها هو أن رياح الوحدة الأوروبية كانت تتصاعد، ووعودها كانت كبيرة، وقفت تاتشر ومعها نفر من الحرس القديم موقفا ملتبسا من اندفاعات الوحدة، فمن ناحية تريد الحفاظ على الموقع التقليدي لبريطانيا ذات النزعة الإمبراطورية، ومن ناحية أخرى لا تريد أن يفوتها القطار الأوروبي.
يومها كان الرأي العام مندفعا بطموح ساحق نحو أوروبا، ووجد قادة حزب المحافظين، الذي قضى في الحكم أكثر من عقد، أن عليه مسايرة اتجاهات الوحدة لقطف ثمارها أولا، ولمعالجة آثار الترهل التي أصابته ثانيا.
وقفت تاتشر بوجه التيار، فتنادى زملاؤها الذين عانوا من جبروتها طيلة 10 سنوات إلى اجتماع بمقر الحزب في “ماثيو بارك ستريت” شبيه باجتماع ليلة السكاكين، استخدمت تاتشر في ذلك الاجتماع كل بلاغتها اللغوية، ودهائها السياسي، وعدتها الحديدية، لكن المجتمعين من وزراء ونواب، عرفوا أن السيدة الحديدية لم تعد كما في السابق، فقد أكلت السلطة من عنفوانها وأورثتها وهناً واضحاً، تألب الرفاق عليها، وسددوا إليها الطعنات، وأداروا الرؤوس فيما بينهم ليختاروا أضعفهم، جون ميجور ليكون خليفتها.
اليوم يحدث شيء معاكس، قضية الوحدة مع أوروبا أصبحت قضية انفصال، والذي يخرج من رئاسة الحكومة هو ديفيد كاميرون الذي يعتبر بقوته الحزبية والسياسية أقرب إلى جون ميجور، والتي تستلم السلطة مكانه هي تيريزا ماي الأشبه بمارجريت تاتشر، بحسب ظواهر الأمور وتمنيات الناس، إذ لم يكن غريباً أن تعنون أغلب الصحف البريطانية صفحاتها الأولى باللعب على تعبير الاستغاثة المعروف May day، في الاحتفاء بـ “تتويج” تيريزا ماي، وهو الآخر تعبير إنجليزي له دلالاته.
والواقع إن انتظارات المنتظرين من ماي كثيرة، لكن وعودها أكثر واقعية، وتكاد تقف في منطقة الوسط بين الاتجاهات المتناقضة، فهي أكدت أنها لن توافق على إعادة إجراء الاستفتاء حول الوحدة الأوروبية، لكنها في الوقت نفسه لن تدير الظهر لأوروبا بشكل مطلق، وهي النصيحة التي تلقتها من ديفيد كاميرون في ظهوره الأخير في مجلس العموم، خصوصا وأن ذلك يشكل قناعتها الشخصية فقد وقفت ضد “البريكست”، لكنها تحترم نتيجة الاستفتاء كما أعلنت، وعلى هذا الأساس فهي تعهدت بأن لا تفعل المادة 50 من اتفاقية لشبونة للبدء في مفاوضات خروج البلاد من الاتحاد الأورووبي قبل نهاية 2016، وذلك لمنح الجميع الفرصة في الذهاب إلى المفاوضات استنادًا إلى موقف واضح حول طريقة وشكل التفاوض، وأكدت ضرورة أن تتمكن الشركات البريطانية من الوصول إلى السوق الموحدة وفقاً لمبدأ حرية حركة الأشخاص والبضائع.
لقد بدأت تيريزا ماي مهمتها الصعبة في رئاسة الحكومة، وعليها الآن معالجة تبعات الابتعاد عن أوروبا خصوصا في المجال الاقتصاد، فالجنيه الإسترليني في أدنى مستوياته، والسوق العقاري أمام شلل حقيقي، ومؤشر الوظائف الجديدة إلى انخفاض متوالٍ، ونسبة النمو أمام انكماش متوقع.. إنها علامات على حالة من الركود تشبه تلك التي أوصلت مارغريت تاتشر إلى رئاسة الحكومة في ثمانينيات القرن الماضي، واتخذت السيدة الحديدية يومها إجراءات غير شعبية، حيث رفعت قيمة الضرائب وزادت عددها، و حررت التجارة إلى أبعد مدياتها، وقوّضت فاعلية النقابات العمالية، لكنها في نهاية الأمر حمت الاقتصاد، وإن أخذ عليه خصومها بأنه اقتصاد فوقي.
تواجه تيريزا ماي الأمر نفسه، وسرعان ما ستنتهي عاصفة التصفيق لها والتهليل لقدومها، فالذين يحبونها يريدون نتائج ملموسة، والذين يكرهونها بدأوا بشحذ السكاكين، وعنوانهم الأول في هذا الإطار، مطالبتها بتحديد موعد لانتخابات مبكرة تحدد فعلياً من يبقى ومن يخرج.
توابع الزلزال الحزبية
ما حدث داخل داخل حزب المحافظين، كان واحدة من توابع زلزال الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والتي أصابت الأحزاب البريطانية كلها تقريبا بنسب متفاوتة، فـ "نايجل فاراج"، زعيم حزب الاستقلال الأكثر شراسة في معاداة الاتحاد الأوروبي، أبعد نفسه تلقائياً تاركاً أمر حزبه الصغير بأيدي خلفاء مغمورين، بعدما أدرك أن الصوت العالي في قضية “البريكست” لم يعد مجديا بعد هدوء العاصفة.
لكن العاصفة الأعنف كانت داخل حزب العمال العريق، فزعيمه اليساري جيريمي كوربن تعرض لحملة إقصائية تحت عنوان التقصير في مواجهة دعاة الانسحاب، لكن كان من الواضح أن المقصود هو تجريد الجناح اليساري في الحزب من مكامن قوته فحسب، ولولا الأزمة التي اندلعت داخل الحزب وفي بريطانيا عموما، على خلفية موقف رئيس الحكومة السابق توني بلير في حرب الخليج الثانية، لكان وضع كوربن ما زال على المحك، وهناك من يقول إن الجناح اليساري هو الذي يقف وراء تفجير تلك الأزمة.
aXA6IDE4LjIyMi40NC4xNTYg جزيرة ام اند امز