رغم انه لا تزال هناك ثلاثة شهور كاملة على موعد انتخابات الرئاسة الامريكية فى نوفمبر المقبل، إلا ان الواضح للجميع ان شهر أغسطس بما حمله من أحداث ومتغيرات مهمة أثرت على أوضاع المرشحين الأساسيين هيلارى كيلنتون مرشحة الحزب الديمقراطى ودونالد ترامب مرشح الجمهوريين ربما يكون الاكثر حسما وتأثيرا، إلى حد أن البعض يعتقد أن المعركة الانتخابية تم حسمها بالفعل لمصلحة هيلارى كيلنتون، التى تتقدم فى معظم استطلاعات الرأى العام على ترامب بنسب تتراوح بين 10 و9 و8%،فضلا عن انحياز غالبية النساء الامريكيات لها بإعتبارها أول سيدة أمريكية تخوض الانتخابات الرئاسية.
غير أن ما جرى فى شهر أغسطس وترك هذا التأثير البالغ الأهمية يتجاوز كثيرا نجاح المرشحة الديمقراطية هيلارى فى تحسين نتائجها فى عدد من استطلاعات الرأى العام، بسبب الزلزال الضخم الذى تعرض له المرشح الجمهورى ترامب نتيجة تفكك الحزب الجمهورى من حوله، وإعلان عدد من أقطابه رفضهم التصويت لمصلحة ترامب فى نوفمبر المقبل لانه لا يصلح ان يكون رئيسا للولايات المتحدة، ويصعب أن يؤتمن على قضايا الحرب أو السلام أو يكون صاحب القرار الاول والاخير لاكبر قوة نووية فى عالمنا المعاصر،فضلا عن سوء أدبه وديماجوجيته وانعدام قدرته على ضبط سلوكه وأفعاله، وعنصريته الكريهة التى تدفعه إلى إعلان كراهيته للاقليات الدينية والعرقية، وسخريته اللاذعة من الجميع وغروره الفظ وسوء أحكامه، ورفضه العنيد الاعتذار عن أخطائه!!.
وربما يكون من الصعب القول إن معركة انتخابات الرئاسية الامريكية تم حسمها فى هذه الوقت المبكر من شهر أغسطس، لكن معطيات الواقع الراهن للمعركة الانتخابية تؤكد تصاعد موجة التمرد على ترامب فى صفوف الجمهوريين نساء ورجالا إلى حد ان البعض لم يتورع عن إعلان عزمه على التصويت لمصلحة المرشحة الديمقراطية هيلارى بدعوى أن الولاء للوطن ينبغى أن يسبق الولاء للحزب،كما تؤكد هذه المعطيات أن المسافات تزداد اتساعا بين نسب المؤيدين لهيلارى ونسب المؤيدين لترامب التى لاتتجاوز فى أحسن الحالات 2%،وعلى حين تكتسب حملة هيلارى زخما جديدا كل يوم تفقد حملة ترامب قوة دفعها، وعلى المستوى القومى تبلغ نسبة التأييد لمرشحة الديمقراطيين ما بين 37و48%طبقا لاستطلاع صحيفة وول استريت، بينما تهبط إلى حدود تتروح بين 28%و34% بالنسبة لترامب، لكن الضربة القاصمة لترامب جاءت مع إعلان السناتور سوزان كولينز من ولاية ميين رفضها التصويت لترامب فى انتخابات نوفمبر، ليصل عدد أعضاء الشيوخ الجمهوريين الرافضين لترشيح ترامب إلى 6أعضاء من 54 عضوا جمهوريا فى مجلس الشيوخ، يفكر أكثر من ثلثهم فى ان يعيد النظر فى موقفه من تأييد ترامب!..،وزاد من سوء موقف ترامب وسط الجمهوريين حملته غير المبررة على كل من جون ماكين رئيس لجنة الامن والدفاع الوطنى الذى يتمتع بإحترام واسع فى صفوف الجمهوريين وبول ريان رئيس مجلس النواب الجمهورى الذى لم يتورع عن ان يعلن على الملأ كراهيته لكل لفظ يصدر عن ترامب مع التزامه بترشيح ترامب احتراما لقرار الحزب الذى تسانده نسبة غير قليلة من القواعد!.
حمل شهر أغسطس أيضا إلى ترامب مفاجأة ثقيلة كان لها وقع الصاعقة، تمثلت فى العريضة الخطيرة التى قدمها اكثر من 50 شخصية أمنية مهمة عملت مع الحزبين الجمهورى والديمقراطي، بينهم ميشيل موريل رئيس المخابرات المركزية ومايكل هايدن الذى شغل المنصب نفسه وربورت زولك رئيس البنك الدولى ووليم تافت نائب وزير الدفاع وسفير الولايات المتحدة إلى حلف الناتو، الذين اعتبروا ترشيح ترامب رئيسا للولايات المتحدة امرا خطيرا يهدد أمن الولايات المتحدة واستقرارها، خاصة ان ترامب لا يملك القدرات التى تمكنه من ان يشغل أهم منصب فى العالم، ومع الاسف جاء رد ترامب على هذه الشخصيات المهمة سلسلة من الاتهامات غير الصحيحة بأنهم عصابة هيلارى كيلنتون التى تريد الابقاء على نفوذها رغم تورطهم فى قرارات كثيرة خاطئة ابرزها قرار حرب العراق.
وكما يمكن أن نعد قائمة واسعة بالشخصيات الجمهورية التى تعلن الان عدولها عن انتخاب ترامب فى نوفمبر المقبل، ثمة قائمة أخرى من النساء الجمهوريات اللائى يشغلن وظائف حاكمة فى الحزب، أبرزهن سيناتور سوزان كولنز وسالى براد شو وماريا كوميللا وميج وايتمان وجميعهن من اقطاب الحزب الجهورى الذين شقوا عصا الطاعة على الحزب وأعلن بعضهن عزمهن على التصويت لمصلحة هيلارى كيلنتون ومساندة حملتها الانتخابية، وبسبب احتشاد نساء الحزب الجمهورى وتوحدهن ضد ترشيح ترامب هبطت نسبة التأييد لترامب داخل الحزب الجمهورى فى حدود 13%طبقا لاستطلاع اخيرا للرأى العام شاركت فيه صحيفة نيويورك تايمز.
وما من سبب واضح لهذا التحول المفاجئ فى موقف ترامب و شحوب وضعه الانتخابى الذى شهده شهر أغسطس سوى تراكم أخطاء ترامب بصورة اكدت للناخب الامريكى حقيقة المرشح الجمهورى وصعوبة ان يكون ما يصدر عنه مجرد خطأ تكتيكى يمكن تعديله أو تصحيحه، وان ما يرونه على المسرح الانتخابى هو بالفعل حقيقة شخصية ترامب التى يصعب تغييرها، كما تكشف تصريحات ترامب على امتداد الاسابيع الثلاثة الاخيرة مدى حماقة المرشح الجمهورى خاصة انها أحدثت ردود افعال غاضبة واسعة داخل فئات الشعب الامريكى زادت من مخاوف الجميع بان تكون هذه التصريحات جزءا من فكر ورؤية رئيس الولايات المتحدة القادم لمجافاتها المنطق واللياقة والذوق العام فضلا عن خشونتها وانعدام مصداقيتها.
تورط ترامب فى الهجوم على اسرة الجندى الامريكى من أصل عراقى المسلمة دون اى مسوغ سوى تأكيد موقفه العنصرى الكاره لكل مسلم حتى لو كان جنديا امريكيا لقى مصرعه دفاعا عن علم بلاده!، وقد خسر ترامب (الجلد والسقط) كما يقولون بسبب حماقة هذا التصريح الذى رفضه جميع العسكريين الامريكيين على نحو مطلق واعتبروه إهانة للشعب والجيش الامريكي، كما خسر ترامب الكثير عندما تطوع بالهجوم على أحد قضاة المحكمة الفيدرالية بدعوى ان ثقافته مكسيكية الامر الذى أدى إلى توحد كل الامريكيين من اصول اسبانية وهم كثر ضده مؤكدين عزمهم تأييد هيلاري،ثم جاءت تصريحاته حول طرق تصرف النساء الامريكيات ضد محاولات التحرش بهن داخل مكاتب العمل لتزيد من غضب النساء الامريكيات على مواقفه التى تفتقد الرصانة والحكمة، وتشعل الحرائق والفتن بدلا من اخمادها، كما تكشف عن شخصية غير منضبطة يمكن ان تورط البلاد فى ازمات لا مبرر لها سوى ديماجوجية الرئيس وغلظة ذوقه وافتقاده إلى اللياقة وحسن التصرف.
وما ينبغى ان يكون واضحا للجميع ان جزءا كبيرا من التأييد الذى تحظى به هيلارى يعود بالفعل إلى الرفض المتزايد لجموع الامريكيين لشخصية ترامب بأكثر مما يعود إلى حبهم لكيلنتون او ثقتهم فى شخصها، لان كيلنتون بطبيعتها ليست الشخصية المحببة للامريكيين فضلا عن قلة ثقتهم فى شخصها بعد تسرب أعداد ضخمة من رسائلها الالكترونية..، لكن أخطاء هيلارى لا تعد شيئا قياسا على اخطاء ترامب الكارثية، وآخرها سعيه إلى تحريض الرئيس الروسى بوتين على ان يعلن الرسائل الالكترونية التى حصلت عليها المخابرات الروسية من التجسس على بريد هيلارى الالكترونى فى فضحية مدوية، جعلت الصحافة الامريكية تتهمه بالتعاون مع موسكو وترفض وتدين موقفه على نحو قاطع، باعتباره سابقة لا مثيل لها فى الحياة السياسية الامريكية..، وايا كانت الفروق بين أخطاء هيلارى وترامب فالامر الذى لا شك فيه ان تجربة هيلارى فى دروب السياسة الامريكية، وزيرة للخارجية وزوجة لواحد من أهم الرؤساء الامريكيين الاكثر تاثيرا فى حياة الشعب الامريكي، وعضوا للشيوخ عن دائرة نيويورك ثم مرشحة للرئاسة تطمح فى أن تكون أول سيدة امريكية ترأس الولايات المتحدة، تجربة غنية بالخبرات والمعارف والتجارب لاتصمد امامها تجربة ترامب المتواضعة الذى يؤكد الرئيس اوباما انه لا يعرف شيئا عن اوضاع السياسة الدولية، ولا يفهم ماذا يجرى فى الشرق الاوسط وماذا يجرى فى اوروبا وماذا يجرى فى اسيا واين تتركز مصالح الولايات المتحدة الامريكية؟!.
وكما يجفل كثير من الامريكيين الان من مجرد فكرة ان يكون ترامب رئيسا للولايات المتحدة، يخشى الكثير من قادة الغرب حلفاء الولايات المتحدة من احتمال ان يفوز ترامب بالمكتب البيضاوى فى البيت الابيض ليأخذ السياسة الامريكية إلى منحدر صعب يؤثر على مكانة امريكا وثقلها العالمي، ولعلها المرة الاولى التى يواجه فيها احد المرشحين للرئاسة الامريكية انتقادات واضحة ومباشرة من الخارج معظمها يأتى من حلفاء الولايات المتحدة واصدقائها، فضلا عن ان ترامب بطبيعته شخصية استفزازية لاتقبل الاخر ولاتحسن التفاهم والتعايش معه فى ظل وجود اختلافات عرقية ودينية.
وبرغم وضوح صورة ترامب فى اذهان الامريكيين الان إلى حد ان الكثيرين يعتقدون ان معركة الرئاسة قد تم حسمها بالفعل فى اغسطس وان كان من الضرورى انتظار النتائج فى نوفمبر المقبل، ثمة من يرون ان ترامب هو الاقدر على هدم نظام سياسى علاه الصدأ يتآكل من داخله وتحكمه حفنة من المحترفين السياسيين تتوافق مصالحها على ضرورة الابقاء على الامر الواقع رغم الحاجة الملحة إلى التغيير التى تبرز فى كل انتخابات رئاسية،تطالب بخيار ثالث وسط بين الديمقراطيين والجمهوريين ينهى احتكار السلطة فى الولايات المتحدة..،ويمثل وجهة النظر هذه رئيس مجلس النواب الاسبق جينجريتش الذى يعتقد ان ترامب هو الوحيد المؤهل لكشف الغطاء عن عيوب النظام الامريكى الراهن ويملك شجاعة تغييره!،لكن اراء جينجريتش تبقى فى حكم الاقلية المحدودة التى لايقاس عليها رغم تركيزها على اهداف شعبوية، مثل خطر الهجرة على حقوق الامريكيين فى اولوية فرص العمل، ومشاكل الغزو الثقافى التى تأتى من وجود مجتمعات وافدة تحتمى بلغاتها الاصلية وجيرتها السكانية من خطر الاندماج مع الثقافة الاصلية للمجتمع لكنها تتسبب فى تدنى مستويات الاداء وانحدار المستوى العام!، إضافة إلى ضرورات تعديل نظم التجارة بما يضمن تكافؤ الحقوق وتوازن المصالح وينهى تفوق الصين الساحق على مستوى السلع الاستهلاكية التى تغزو السوق الامريكية وربما بسبب هذه الشعبوية لايزال ترامب يحظى بنسبة تأييد فى عدد قليل من الولايات الامريكية تقرب من نسب هيلاري.
واذا صحت توقعات أغسطس، وفازت هيلارى كيلنتون بمنصب الرئيس فى نوفمبر المقبل، فالامر المؤكد انها رغم انحيازها الاصيل لاسرائيل إلا سوف تكون اكثر معرفة ودراية بقضايا الشرق الاوسط واكثر قدرة على مخاطبة مشاكل المنطقة من منافسها ترامب الذى يجهل الحقائق الاساسية للمنطقة ويساند إسرائيل من موقف عنصرى بحت..، صحيح ان ترامب هاجم سياسات اوباما وكيلنتون فى الفوضى البناءة واتهم الادارة الامريكية مباشرة بالعمل على تسليم حكم مصر لجماعة الاخوان المسلمين، لكن ذلك لا ينبغى ان يزيغ ابصارنا عن الحقيقة المهمة والاساسية التى تؤكد ان ترامب فى طبيعته الاصلية عنصرى ديماوجوجى شعبوى يحسن ان يبقى مجرد قصة فشل لا نجاح.
المقال نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة