أجيال منكوبة بالإحباط الكبير لأسبابٍ، أقلها التهجير والتشتيت والسحق منذ نكبة فلسطين وصولاً إلى مشاهد من اليأس والبؤس
في السابع من يناير/كانون الثاني 2015، وقع الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، وفي 14 منه ظهر تسجيل مصور تبنى فيه تنظيم "القاعدة" العملية التي حصلت بأمرٍ من زعيم التنظيم أيمن الظواهري.
وفي 25 منه، التقيت على العشاء بمجموعة من كبار الصحفيين العرب والأجانب، في منزل صديق ألماني متقاعد، وهو يجاهر بتعاطفه مع العرب. سألني صحفي لبناني متزوج من فرنسية، ويرأس تحرير قناة فرنسية معروفة: ما رأيك سنعود إلى لبنان؟ قلت: مستحيل. أنا أقبل بالعودة إلى باريس بالموقع ذاته في مجلة المستقبل، والراتب ذاته متخلياً عن ثلاثة عقود من التعليم الجامعي والمكاسب في لبنان والبلاد العربية. أجاب: بالمعلومات، نحن في فرنسا وربما أوروبا، على أبواب حروب قد تكون أقسى من الحروب الأهلية. قلت اعذرني، هذا نوع من التخريف، أجاب: حتى زوجتي التي لطالما رفضت الإقامة في لبنان تحضر نفسها والأولاد للعودة إلى لبنان حيال كوابيس الإرهاب. وإذ أتحفظ عن ذكر الأسماء وما دار في اللقاء، يبدو البحث عن الإرهاب والإرهابيين قد أصبح يشغل البال والحبر والدول في العالم لا في فرنسا وحدها، خصوصاً بعدما عرفت أن العائلة صارت في بيروت، وبقي رئيس التحرير في باريس.
يمكننا التفكير الحكيم بالكثير من الأجيال الآسيوية العربية والإسلامية الواقفة أو المقرفصة فوق شواطئ المتوسط من الجنوب والشرق. أجيال منكوبة بالإحباط الكبير لأسبابٍ، أقلها التهجير والتشتيت والسحق منذ نكبة فلسطين وصولاً إلى مشاهد من اليأس والبؤس تجتاح حقول الشوك الوعرة التي أفرزتها فصول "الربيع العربي" بصيغ الجمع وهي تصب شلالاتٍ من القهر وردود الفعل التي تساوي الموت بالحياة. هذه مسائل معقدة جداً لا يفكها علم التحليل النفسي والاجتماعي، ولم نعتد عليها. يوجد حلم طبيعي بالتغيير لدى الشباب في العالم، حيث تقوى في الأعمار الفتية أعصاب الرفض ونبراته التي لا يمكن تفسيرها بسهولة. وإذا ما تصاحبت هذه الأحلام بالقسوة والرفض المقابل تتضخم الحفر بين الآباء والأبناء. يبدأ الحلم بكيفية الاستقلال عن سلطة الأهل، والتمرد على سلطات المدارس والمجتمعات وصولاً إلى نبذ القوانين والأصول والأعراف، وإذا لم يكن هناك من أنظمة ساهرة ورشيدة واستراتيجيات حضارية وتربوية ستسقط المجتمعات في الكوارث.
وإلا كيف نفسر بالمعنى العلمي هذا الإقبال الهائل على العنف؟
فلنقل إن شرائح من الشباب استطابت التغيير أولاً لكونها تعبت وأعياها الفقر والقمع والسجون، وخيل إليها بأن ذاك الربيع المتنقل سيغير الواقع الذي ضاعف من إحباطهم عندما لم يصل الربيع إلى ثمارهم المرجوة، ولم يلح لهم بتطلعاتهم البسيطة.
ماذا كانت النتيجة؟ كانت كسر حواجز الخوف أولاً. هو الجواب المألوف الذي لم تقم الأنظمة أو المفكرون أو الكتّاب أو المعلمون في المدارس والجامعات بتداركه. وهذا ما كنا نشعر به قبل سقوط بعض الأنظمة التي صمت آذانها حتى انتشار الفوضى والتمرد. لقد بلغت درجة العنف الكلامي والسلوكي أساساً حدوداً ما كنا نألفها من قبل. وقد غفلنا ربما عن مسألة خطيرة اجتاحت أفكارنا، وهي سهولة التواصل مع الدنيا بما فتح آفاقاً لا تنتهي تسمح بالمقارنة بين الشرق والغرب، وبشكلٍ اختلط الشرق بالغرب في مشاهده ووفرته وديمقراطيته. لم يكن أمام شرائح الشباب سوى الاختيار بين أمرين: إما توضيب أنفسهم وعائلاتهم والاندفاع نحو ضفاف أوروبا المتوسطية في الغرب والشمال بحثاً عن الأماكن الآمنة حتى ولو كانت الأرصفة والسجون المؤقتة في أصقاع الأرض، ولكي يصلوا لهذا الخيار عليهم أن يسلكوا ممراً مائياً عبر الخوض في مياه المتوسط بما يحول أحلامهم نحو أوروبا. إذا تحققت فبنعمة الله، وإلا سيكون مصيرهم الغرق أطعمة للأسماك والحيتان وفيها يستعيد المجازف حلم حياته في ما يشبه ماء الرحم إذ يبقى الموت أقل قساوة. أو أن يسلكوا ممراً برياً لمن اعتادوا اليابسة ولم يعرفوا البحار طوال حياتهم، حيث يتلاقى الحالمون في الغرب عبر اليابسة والماء.
هذا الانقسام بين اليابسة والماء في البحث عن أحلام النازحين، كان يهز القارة الأوروبية والعالم: قسم يشد بذراعي أوروبا نحو الآفاق لاحتضان العصافير العربية النازحة الميبسة بأملاح المتوسط أو بوعورة الطرق البرية، وقسم يكتف أوروبا ويدعوها إلى غلق نوافذها البرية والبحرية بإحكام في وجه الفارين من النار.
قد يكون السبب الأكبر أن أوروبا غفلت أو أنها ما انتبهت إلا متأخرة، بأن الوجه المظلم والبائس الذي عكسته شرائح من النازحين سواء بما كانوا يعانون منه في الأوطان الأم، أو ما عانوا منه خلال طرق النزوح أو ما يعانون منه في مخيمات النزوح، وكلها مسببات أيقظت أمرين: يقظة المهاجرين على حقيقة ما تعاني منه أوطانهم وعائلاتهم بالواقع المر لا بالصور والأخبار من ناحية، ويقظة الدم بعد ملاقاتهم مع النازحين من مواطنيهم وأقاربهم، وأحلام الشباب العربي والمسلم الذي راح ينجو في الإتجاه المعاكس، بحثاً عن الحل في القتال أو الموت في الأرض الأولى.
إننا أمام أزمنة من العذابات الطويلة في رحلات البحث الفوضوي عن الجذور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة