في "الرمضة".. ترويض لهيب الرمال تأصيلاً لتراث الأجداد
تجربة استثنائية وبطولة تراثية أولى من نوعها تلك التي نظمها نادي رحالة الإمارات في محاولة جادة لاقتفاء آثار الأجداد.
كأنما شدتهم رائحة رمالها فراحوا في حالة من حالات التأمل لعلهم يفهمون لغتها ويدركون تفاصيلها فوجدوا أنفسهم مهرولين إليها متحدّين صعابها مروّضين قساوتها.
هكذا رأيتهم عندما ذهبت إليهم في منطقة الهباب في دبي لأشهد على لحظة انطلاق 135 مشاركاً قرروا أن يخوضوا غمار التجربة ويتحدّوا ما يعتبره كثيرون المستحيل من خلال سيرهم حفاة مسافة 100 متر على رمال الصحراء الساخنة في تلك الأيام.
تجربة استثنائية وبطولة تراثية أولى من نوعها تلك التي نظمها نادي رحالة الإمارات تحت مسمى "تحدي الرمضة" في محاولة جادة لاقتفاء آثار الأجداد.
ساعتان هي المدة التي قطعتها السيارة من قلب دبي إلى منطقة الهباب على الحدود مع سلطنة عمان، وقت كفيل بأن يجعلني أتأمل الصحراء ذاك الفضاء الساحر، تلك التي تختزن تحت رمالها قصص الفروسية وأشعار البادية.
إذن هي الصحراء بحنينها وتوحشها وتمردها وجنونها وعطفها وكل تناقضاتها التي تأسر البشر.
إذن هي تلك الصلبة الشامخة التي استطاع الإنسان أن يروّضها بل ويحول من رمالها الملساء ذهبًا يلمع عبر الدروب، لم يكن أحد يصدق أن تلك الموحِشة تخفي الكثير من الأسرار والمعجزات التي تستطيع بجدارة أن تشد حواس الجميع لتتحول الأنظار والقلوب إليها، بل وقد يدفع زائرها آلافاً مؤلفة من نقوده من أجل أن يقضي أياماً بين أحضانها.
عند مدخل منطقة التحدي وقف عوض بن مجرن، رئيس نادي رحالة الإمارات مرحباً بزائريه الذين قطعوا المئات من الكيلومترات من أجل حضور تلك البطولة.
عندما سألته عن سر اختيار فريق الرحالة لهذا النوع من تحدي الطبيعة أجابني بلا تردد: "الرمضة" هي المنطقة شديدة الحرارة التي يمشي فيها البدو متحملين الرمال الملتهبة وأشعة الشمس وقساوة الحياة، واستلهمنا منها تحدياً فريداً ونشاطاً صيفياً فريداً يعكس حبنا للتراث والصحراء التي تعتبر جزءاً أصيلاً من ثقافتنا الإماراتية التي نتمسك بها.
مفاجأة أثلجت قلوب الكثيرين عندما دخل على الخيمة المقامة وسط الصحراء الفنان حبيب غلوم، وكيل وزارة الثقافة وتنمية المعرفة والذي رُحب به ترحيباً جماهيرياً كاد أن يُنسي الجميع لفحة هواء الصحراء الساخن. انتظرت حتى التقط غلوم أنفاسه وارتشف بعض الماء المثلج ليصف لنا سعادته الجمّة بحضور تلك المسابقة التي لقبها بالجديدة والمتميزة والحافظة لتراث الأجداد. وبسؤاله عن المعاناة التي سيلاقيها المشاركون أجاب: لا شك أنها مهمة صعبة خاصة تحت درجات الحرارة العالية، ولكني أراها إحياء لتراث القدامى وليلمس شبابنا كمّ المعاناة التي لاقاها أجدادهم من خلال حياتهم في الصحراء، والحقيقة أنني أدعم تلك الرحلة الثقافية المعبرة بكل ما أوتيت من قوة لأنها بالفعل تأصيل لثقافتنا وهويتنا العربية والإماراتية.
بدأ الصمت يسود في المكان ليعلن صوت عوض بن مجرن قرب بدء المسابقة.
كانت الصديقتان تقفان على أهبة الاستعداد بعد أن تلقيا الفحص الطبي اللازم من أطباء المستشفى الأوروبي الذين انعكس وجودهم الرحلة بالاطمئنان على كل المشاركين قبل وبعد الانتهاء من المسابقة.
الرحالتان الإماراتيتان هدى زويد وميثاء مبارك أجمعتا على أن اختيارهما لخوض تلك المغامرة جاء لإثبات الوجود النسائي. وقالت هدى: إننا لا نقل عن الرجال في قوة التحمل والإصرار، بينما رأت ميثاء بأنها فرصة سانحة لهما لتقديم إنجاز جديد يتزامن مع احتفالات الدولة بيوم المرأة الإماراتية.
قبل أن ينطلق السباق بدقائق فاجأ الألماني موترن الجميع برغبته الشديدة بالمشاركة في المسابقة ووسط ذهول الحاضرين بدأ يخضع بالفعل للفحوصات الطبية. ويبدو أن موترن الذي اصطحب زوجته وطفلته ليشهدا تلك اللحظة قد شعر بالدهشة في العيون التي تحيط به فتحدث ضاحكاً: أعشق الإمارات التي قررت أن أكمل بقية عمري فيها، وأهوى التراث الإماراتي، وما إن علمت بتلك المسابقة جئت على الفور من أجل المشاركة في هذا التحدي، وهي تجربة مفيدة أيضاً للصحة.
ها هي ساعة الصفر تنطلق وها هم المتسابقون يهرولون حفاة الأقدام على الرمال الناعمة الساخنة، البعض صمم على أن يكمل المشوار رغم المعاناة والآخر لم يقو على الاستمرار ولكن يبقى لهم على حد قولهم شرف المحاولة.
42 مغامراً استطاعوا أن يكملوا المسابقة ويجتازوا السباق التراثي لمسافة 100 متر، وذلك من أصل 135 مشاركاً.
وتبقى فوائد السير على الرمال الساخنة بالنسبة لصحة الإنسان كثيرة، وهي ما لخصها الدكتور أدهم منصور من المستشفى الأوروبي قائلاً: تعزيز مناعة الجسم هو أول وأهم فائدة، وأثبتت كثير من الدراسات العلمية أن المشي على الرمال يساعد في تفريغ الشحنات السلبية في الجسم، ويقوي المناعة ويقتل الجراثيم العالقة بين تجاويف أصابع القدم، ما يحسن الحالة النفسية ويعزز الطاقة الإيجابية.
انتهى السباق ولم ينته تحدي الرمضة؛ بل خرج المتسابقون وقد ازدادوا إصراراً على الوقوف أمام الطبيعة القاسية وترويضها كما كان يفعل أجدادهم، وبقيت أبيات سطرها سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم محفورة على ذاكرتهم قبل ملابسهم التي طُبعت عليها عندما قال: "يا بوي ابشر ترى شبلك توارت عن مداه أشبال، وثب فوق الدروب وسابقت رجله خطاويها."