"البقشيش" يثير الخلاف بين السعوديين.. تكافل أم فساد؟
البعض اعتبرها من باب الصدقة.. ومخاوف من تحوّلها لرشوة
اعتبرها البعض ظاهرة سلبية، بينما أيّدها كثيرون، خصوصًا معتادي السفر إلى الولايات المتحدة وأوروبا، التي اعتادت أن يكون البقشيش إجباريًا.
"البقشيش" مصطلح يدل على قيمة مادية مدفوعة مضافة إلى قيمة فاتورة المشتريات، أو الإقامة في الفنادق، أو حمل الحقائب في المطارات.. إلخ، يمنحه البعض باعتبارها عُرفًا اجتماعيًا، والبعض يمنحها من باب الصدقة والإحسان، بالعطف على العامل البسيط الذي يؤدي الخدمة، ويعلم صاحبها أن راتبه بسيط، وقد لا يكفيه، فيكون البقشيش نوعًا من مساعدة العامل على متطلبات الحياة، وضروراتها، في ظل ارتفاع الأسعار المتنامي عالميًا.
كلمة بقشيش تعني بالانجليزية TIPS أي To Insure Prompt Service أي لتأمين خدمة سريعة، ففي المقاهي الإنجليزية وُلدت هذه الفكرة للحصول على أفضل خدمة، وفي بادئ الأمر كان يعطى البقشيش عند الوصول إلى المكان وليس عند الخروج منه، فالنظرية هنا عملية جدا، فليس هناك أي داعٍ لترك "البقشيش" بعد الانتهاء من تناول وجبتك، فقد لا تعود إلى هذا المكان، ولكن عندما تترك مبلغًا من المال للنادل عند دخولك، فسوف تحصل على أفضل خدمة ممكنة.
وفي أمريكا أصبح "البقشيش" عرفًا معترفًا به في جميع المطاعم والمقاهي، إذ يترك في الفاتورة قيمة البقشيش التي قد تصل إلى 25% من القيمة الإجمالية، حتى لا يكون هناك أي مشاعر لتحقير العامل عند إعطائه "البقشيش". وقد روّج الأمريكان لثقافة "البقشيش" في كل مكان يذهبون إليه للحصول مقابل مالهم على أفضل خدمة ممكنة.
وفي السعودية، اختلف البعض على منح "البقشيش"، ما بين المطالبة بوضعه ضمن الفواتير عند المحاسبة، فيكتب القيمة كذا، وقيمة "البقشيش" كذا، فيحفظ بذلك كرامة العامل، على غرار ما هو معمول به في بلاد أوروبا، وأمريكا. بينما البعض اعتبرها ظاهرة سلبية.
استطلعنا الآراء حول "البقشيش"، ومدى تأثيره على البناء الاجتماعي، وما بين اعتبار البعض "البقشيش" ظاهرة صحية دالّة على التواصل الاجتماعي بين فئات المجتمع، اعتبرها البعض ظاهرة سلبية، بينما كثيرون أيّدوه، خصوصًا معتادي السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بحكم الاعتياد على العرف القائم في هذه البلدان، إذ يكون "البقشيش" إجباريًا.
بين السلبية والصحية
يقول الشاعر حمد شافي الدوسري: "إن انتشار ظاهرة البقشيش في السعودية أو أي بلد آخر يعتبر ظاهرة سلبية، ولها تأثيراتها على المدى البعيد، بداية من تقاعس الشخص عن إنجاز عمله إلا بمقابل، وصولاً إلى فشل المؤسسات التي تنتشر فيها هذه الظاهرة".
وأكَّد أن "البقشيش ككرة الثلج، لن تصغر أبدًا، بل على العكس، متزايد دائمًا، وسيظل مظهرًا غير محبب لأي بلد حضاري، يسعى للنمو والتطور، ومواكبة الدول المتقدمة الأخرى".
تختلف الكاتبة الأكاديمية الدكتورة فوزية أبو خالد، مع الرأي السابق، بل وتؤكد أن "البقشيش ظاهرة صحية".
وتضيف: "وماله" على قول إخواننا المصريين، فالبقشيش ظاهرة صحية لمن يقدم لنا خدمة في الفنادق والمطاعم والمطار.. إلخ، طالما أنه تعبير عن امتنان حقيقي وليست لاستمالة أحد أو السطو على حق أحد لا سمح الله بغرض أو لخدمة غير نزيهة، وإني أستغرب أن ندفع 1000 ريال لليلة الواحدة في فندق ونبخل على منظفي الغرف بـ10 ريالات مثلاً، مع علمنا بعملهم المؤلم في التنظيف بعد الآخرين، سواء في فندق أو مطعم، ونعلم أنهم في بلد مثل أمريكا قد جعلوا أمر البقشيش مفروغًا منه، وفي الكثير من الأماكن تكون نسبته 18% من قيمة فاتورة الطلب، سواء كان الطلب وجبة أو مشروبًا، وهذا رأيي طالما أن هذا القطاع الخدمي قائم".
"البقشيش" نوعان
أمسك الشاعر محمد أبوشرارة العصا من منتصفها، وقال: "أعتقد أن البقشيش نوعان: إيجابي ينمّ عن كرم نفس، وسخاء يد، ودماثة خلق، ورقة طبع، وتهذيب سلوك، وحنو على الفقير، وعطف على ذي حاجة، أما النوع الثاني، فظاهرة سلبية، أعتبرها صورة من صور الرشوة، قد يتوصل لها باذلها إلى ما لا يستحقه، أو يتوسل بها حق غيره بلا وازع ولا ضمير، ولكن يسميها الناس بغير اسمها، وانتشار النوع الأول دليل رقي مجتمعي، والآخر دليل خلل، ونذير شؤوم".
نفي
يقول الإعلامي أحمد المسينيد: "ليس هناك حضور لافت لما يسمى بظاهرة البقشيش في السعودية، مقارنة ببعض الدول العربية الأخرى".
ويضيف: "البقشيش في عدد من الدول العربية لا يقتصر على العاملين في القطاع الخاص فحسب، بل يمتد إلى موظفي الدولة، نظرًا لتدني الرواتب، في الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هناك شيء مشابه للبقشيش، لكنه مغاير في المفهوم والدلالة، كعرف أمريكي في المطاعم "TIP"، خصوصًا وأحيانًا خارجه، يمنح للنادل مقابل جودة خدمته للعميل، لكنه لا يطال موظفي الحكومة، ولا يفهم منه التهاون في تطبيق النظام، إنما إكرامية مقابل جودة في التعامل".
ويشير المسينيد إلى أن "حين يتماهى مفهوم البقشيش مع الرشوة تكون الطامة الكبرى، فهو تلاعب بالمصطلحات لا يغير الحقيقة، في السعودية ليس هناك حضور للبقشيش".
مع العاملين
سألنا عددًا من العاملين في الرياض عن مشاعرهم تجاه تلقيهم "البقشيش"، فقال سيرانو الهندي، عامل بوفيه: "أتيت من بلادي براتب قليل، مع ارتفاع الأسعار وإرسال ما يتبقّى إلى أهلي في الهند، فالراتب لا يكفي، وكثير من الناس يعطونني البقشيش لأنهم يعلمون أن عملي صعب، وأني أخدمهم في المقابل بصورة جيدة، وهذا ما أفعله مع الجميع، لأني طبيعة عملي تحتم عليَّ ذلك".
أكَّد كلامه أيضًا زميله في المجال نفسه، وأضاف: "نحن نؤدي الخدمة سواء حصلنا على البقشيش أو لم نحصل عليه، لأن هذا يرجع إلى حالة الرضا التي يشعر بها من يحصل على الخدمة، فيدفع وهو غير مضطر إلى ذلك تمامًا، لتأكده أننا بذلنا له كل ما في وسعنا لراحته، وهذا أيضًا يفعله زملاء كثيرون لي في كل مكان، يعرفون أن السعوديين يدفعون البقشيش برضا تام على ما يفعلونه، مع ابتسامة أيضًا في كثير من الأحيان، وفي بعض الأحوال، يترك الزبون باقي قيمة الفاتورة، مع علامة رضا، أو أنه يقول "الباقي لك"، فيكون الرد كلمة شكر، مع ابتسامة تحية".
البقشيش تكافل اجتماعي
يقول استشاري الطب النفسي البروفيسور طارق الحبيب: "ظاهرة البقشيش منتشرة في السعودية، لكنَّها انتشرت في مناطق دون الأخرى، وانتقلت الظاهرة من هذه المناطق إلى باقي المناطق، وهذا لا يقلل من قيمة الإنسان أبدًا، إذا اتُفق على أنَّها حق للعامل، باعتبارها وظيفة صغيرة، فيمنحه الناس، ويأخذه العامل ورأسه مرفوعة، كما يحدث في المطاعم الأمريكية، فيكتب في الفاتورة، قيمة الفاتورة كذا، وقيمة البقشيش كذا، فتقنين هذا الشيء، ربَّما يحافظ على الاحترام".
ويضيف الحبيب: "إذا أدت هذه الظاهرة إلى نوع من التكافل الاجتماعي البسيط فلماذا نحاربها، فيجب أن نقننها بشكل أفضل. أنا أستخدم البقشيش بنية الصدقة والإحسان، فعامل المطار مثلاً حين يوصل حقيبتي إلى السيارة، أعطيه أجره بزيادة خمسة ريالات بهذه النية، فهذه النية تؤدي إلى نشرها بطريقة الصدقة".