الصحافية.. أشهر بائعة ورد في الأردن
هيام أبو النعاج.. البعد عن الوطن وأولادها خلق منها امرأة لا تعرف ضعفًا ولا يأسًا، سنوات سعت إلى لَمِّ شتات أولادها، حتى عادوا إليها.
جميلة هي كملامحها.. البعد عن الوطن وأولادها خلق منها امرأة لا تعرف ضعفًا ولا يأسًا، سنوات سعت إلى لَمِّ شتات أولادها، حتى عادوا إليها، وما زالت بنبض كلماتها تسعى إلى لَمِّ شتات الوطن فلسطين؛ بلدها التي حُكم عليها وأخواتها ألا يدخلوها إلا كأغراب، كلٌّ منهم في دولة ليحافظوا على ما تبقى منهم.
تحكى هيام أبو النعاج: "أنا من مواليد بيروت، ولدت في منزل رائع يضم إخوة كثيرين، ترتيبي الرابع بينهم، كنت سعيدة بجو العائلة وعدد الإخوة، إنما.. دائما ما كنت ألاحظ في عيون والداي قلقا وحسرة لا أفهم معناها، حتى انتهت طفولتي وعرفت ساعتها من أين تأتى حسرتهم.. الأهل والوطن.. كثيرا ما حدثنا أبى عنهم عائلتنا بفلسطين وعن أخي احمد، ابنه من زوجته الأولى التي تُوفيت بعد ولادته وتركته رضيعا مع جدتي".
يوم الهجرة
وتضيف هيام: "حينما اشتدت الحرب والحصار عام 48 حاول أبى الفرار إلى بيروت مرات بعدما توعده الصهاينة بالقتل، كما فعلوا مع عمى من قبل لدورهما في المقاومة.. أخذ أبى أولاده (على وأحمد الرضيع) وجدتي، وما أن تحركوا تذكرت جدتي أنها نسيت أوراقا مهمة، فقررت أن تعود لإحضارها ولحاقها بهما بعدها، وتشبث بها الرضيع فأخذته رفقا به إلا أنها لم تتمكن من اللحاق بأبيها وشقيقها... مرت سنوات على والدى لم يرهما حتى أنا لم أرَ أخي، إلا وأنا في الرابعة عشر فيب أول زيارة لبلدي فلسطين بعد وفاة جدتي بأعوام".
وفي بيروت تعرف والدها على أمها.. فلسطينية فرت بحثا عن الأمان، تزوجا وأنجب منها 5، احتلت هيام مركزها الرابع بينهم، وعاشت الأسرة في راحة بال، حتى أدركت بعدها أنها مجرد ضيفة على البلد، ليس بيروت فقط، وتقول: "لا نحمل سوى وثيقة سفر، لا نحمل جنسية البلد التي ولدنا فيها، ولا حتى بلدنا التي هجرنا منها، ما نحن إلا لاجئون، إن لم يصل لكم الإحساس بمعنى الكلمة وآلامها، فأقل ما يُوصف به حالنا أننا بلا أصول.. بلا حرية.. بلا هوية.. فقد سلبوا منا كل شيء.. حتي ذواتنا".
وتضيف: "لاجئة أنا.. لم أعرف مرارة الكلمة إلا حينما أوجعتني بها والدة زميلة لي بالمدرسة، وكأنها تبصق على وجهي.. يومها نلت الترتيب الأول على صفى، فجاءت والدة طالبة كانت ابنتها دوما هي الأولى لتقول لي ألا يكفيكم أننا نأويكم ببلادنا، حذار أن تظني أنك ستأخذين مكان أبنائنا يوما.. رغم كلمات التهدئة ممن حولي بأنها ما هي إلا امرأة عنصرية، وطالبوني بألا أعمم حكمي، إلا أنني ظللت أردد الكلمة دوما.. لاجئة.. لاجئة.. وأتساءل: هل سآخذ حقي يوما؟".
شتات X شتات
في السابعة عشرة تزوجت هيام من رجل أردني، أثناء زيارته لبيروت، وسافرت معه إلى السعودية، أخذت عنه الجنسية، وكانت سعيدة جدا لأنها أصبحت تحمل جنسية بدلا من وثيقة سفر، كثيرا ما كانت تعرضها للأذى على الحدود وسوء معاملة في السفر من بلد إلى بلد.
عاشت معه 18عامًا، درست خلالها الفن التطبيقي، وأنجبت ستًّا من الأولاد، ولقسوته وسوء معاملته قررت الانفصال عنه، وعادت إلى بيروت للحياة مع والديها وبعض إخوتها الذين هجروها خوفا من الحرب على لبنان، واستشهاد زوج أختها أمامها، وكل منهم لجأ إلى دولة، فمنهم من ذهب إلي الدنمارك، ومنهم من عاش في السويد.
تركت هيام أولادها غصبا، فقانون السعودية لا يسمح للأم أن تأخذ أبناءها بسهولة، ورغم أنه وعدها بأنه سيرد لها أولادها، ويوفر لهم سكنا في بيروت، إلا أنه حنث بوعده، بل أخفاهم عنها ومن هنا بدأت رحلتها عازمة علي أن تصل إليهم، وتقول: "قررت أن أحارب حتى الموت لأحصل عليهم، لن أترك الشتات الذى أصابني وأسرتي يصيبهم، سأعيدهم.. ولولا ما أصابني لكنت أحيا حياة غير الحياة".
وفي بيروت بدأت رحلتها إلى عالم الكتابة، فبدأت كمراسل إقليمي لمجلة الشرق السعودية، وفي تلك الفترة تنقلت ما بين لبنان وسوريا والأردن وفلسطين لتغطية الأحداث، وظلت على هذه الحال ثلاث سنوات، تستجدي طليقها، وتلاحقه كي تسترد أولادها.
آلام علي الحرير
وفي رحلة البحث عن أولادها ترجمت هيام آلامها إلى لوحات ورسم على الحرير، وأقامت معارض خاصة في بيروت، جذبت الإعلام إليها وكثيرًا ما كُتب عنها، عرفت وقتها أن طليقها انتقل إلى عمَّان مرة أخرى، وأنه أسكن الأولاد بمفردهم في منطقة بعيدة عنه، فاستطاعت أن تصل إليهم بعدما استدلت على عنوانهم من مدرسة ابنتها؛ فوجدت أربعة منهم، وعرفت أنه هاجر إلى أمريكا وأخذ أصغر الأبناء؛ بنت عمرها ثلاث سنوات وولد عمره خمس.
وتقول: "عدت إلى الأردن لأواجه الحياة، تراكمت الديون، ساعدني والدى كثيرا حتى استطعت أن أستعيد توازني".
التقت وزير الإعلام الأردني محمود الشريف مؤسس جريدة "الدستور" بإحدى الفاعليات ففاجأها بالثناء على نشاطها وأدائها، وسألها: انتى لبنانية؟.. أجابت: "أنا أردنية، البلد الوحيد التي منحتني الجنسية، وأحب أن أخدم صحافة بلدي".
ومن وقتها انضمت إلى الدستور من عام 2002 لتكمل رحلتها في المهنة التي تعشقها، عالم الصحافة والكتابة، لتصل 25 عاما، ومنذ عامين قررت أن تتركها رغم عشقها لها، وتقول: "صحيح أنها لي حياة، إلا أن دخل الصحفي المهني والصادق في نقل المعلومة لا يكفيه بالكاد، لكن الصحفي الذي له أجندة خاصة يحصل على الأموال بطرق مختلفة، لذلك لجأت إلي الورد ليكون باب رزق لي ولأولادي".
وتفرغت هيام لبيع الورود في محل صغير تملكه، وأصبح أولادها رجالا واستعادت باقي أولادها الذين لم يحتملهما والدهما كثيراً.
واليوم، باتت هيام أبو النعاج جدة تبيع الورد في أشهر شوارع عمّان.. ومتفرغة للكتابة والعمل الاجتماعي الإنساني للاجئين في شتي بقاع الأرض، بالتعاون مع الملكة رانيا وأميرات البلاط الملكي الأردني.