فيلم "العائد".. هل برر مقولته السينمائية "كلنا همجيون"؟
يعرض "العائد" بِنية تشكيلية سينمائية بديعة للغاية تُعيد الإنسان إلى صور الطبيعة البِكر وتوليفها مع أقدار هي أشبه بمقولات فلسفية فكرية.
156 دقيقة من المشهدية البصرية تبدو كافية لأن يخرج المتفرج من صالة السينما وهو يتذكر أبرز اللقطات في فيلم " The Revenant" أو "العائد من الموت"، بعد أن عايش الصراع بين البشر والحيوان والطبيعة والقدر.
الفيلم الذي انتزع ثلاث جوائر "غولدن غلوب"، هي جائزة أفضل فيلم درامي، وجائزة أفضل ممثل (ليوناردو دي كابريو)، وجائزة أفضل مخرج (أليخاندرو غونزاليس اناريتو)، كان قد كُتب له النجاح الباهر منذ الدقائق الأولى من عرضه، كونه يعرض بنية تشكيلية سينمائية بديعة للغاية تُعيد الإنسان إلى صور الطبيعة البكر وتوليفها مع أقدار هي أشبه بمقولات فلسفية فكرية تضافرت فيها عناصر سينمائية مجتمعة.
أي نوع من القدر عاشه غلاس؟
يبدأ الفيلم بتصوير قصة الصياد الأمريكي هيو غلاس (ليوناردو ديكابريو) الذي يعمل لمصلحة شركة متخصصة في بيع فراء الحيوانات، والتعرّج على حياة ابنه الهجين هوك (أمه من الهنود الحمر)، ونظرة الآخرين الدونية والانتقامية إليه، لكن غلاس يستمر في رحلته مع مجموعته لصيد الحيوانات بغية الحصول على فرائها، إلا أن العديد من المنغّصات الدرامية تقف حائلاً في وجه تقدمه ليجعل خط الفيلم الروائي هذا متعرجاً لا مستقيماً.
يصارع غلاس دباً في واحد من أقوى المشاهد في الفيلم، يبدأ في نهش جسده البشري قطعة قطعة ليفقد على إثرها النطق والحركة إلى نقطة بعيدة من مدة الفيلم، ويمتد العراك بين البطلين إلى مشاهد لا يمكن تخيلها وجديدة في عالم السينما تصور الصراع بين الإنسان والحيوان على خلفية طبيعة لا ترحم بدورها، حتى يُقتل الدب في النهاية بحيلة درامية سريعة.
هنا وجهة الحبكة الأولى التي تغير مجرى أحداث "العائد" إلى سياق آخر، حيث يأمر بمقتضاها رئيس البعثة زميلين لـ غلاس بمتابعة علاجه ودفنه بشكل لائق حين تحين ساعة الوفاة، وهنا يأتي دور زميله فيتزجيرالد (توم هاردي)، الذي بدا من أول العرض وهو يخبئ اللؤم تجاه غلاس وبأنه أصبح عالة عليهم، مبرراً ذلك بالخوف من السكان الأصليين (الهنود الحمر) الذين استخدمهم جيرالد لتخويف الآخرين، لتسير به الأمور إلى قتل هوك بعد صراخه ورؤيته لجيرالد يقتل والده ثمرميه تحت إحدى الأشجار ودفن غلاس حياً لكي يحصل على مستحقاته المالية التي وعدها به شركته (300 دولار) على أن يعود إلى تكساس ويعيش كغيره.
هذا الحلم لن يتحقق، لأن غلاس استفاق من وعيه وعاد إلى الحياة لتبدأ رحلة الانتقام لابنه وزوجته المقتولة أصلاً قبله، وهنا نحن أمام عشرات المشاهد التي تصور الحياة قبل أكثر من قرن من الزمان، وخلال رحلة بحثه عن بيتزجيرالد يلتقي الكثير من المكلومين الذين فقدوا عائلاتهم ممن تربطهم بغلاس مصائر مشتركة نتيجة الحروب بين الأمريكيين الهنود الحمر.
كل الشقاء والتعب والجهد في رحلة غلاس يقوده إلى غريمه أخيراً، الذي لاقى الويلات بسببه، لكنه لا يقتله بل يدفع جسده المصاب بعد معركة شرسة معه عبر نهر صغير إلى زعيم قبيلة هندية ليقوم هو بنحره بالسكين، تماشياً بمقولة آمن بها غلاس وتعلمها من هندي آخر "الانتقام بيد الربّ وحده".
مشهدية بصرية تشكيلية تجسد الغابة
تجتمع الكثير من الفنون البصرية والأدائية والموسيقية في شريط The Revenant ويسخّر أليخاندرو لذلك الكثير معتمداً بشكل غالب على سيناريو من رواية مايكل بونكي (العائد: قصة انتقام).
ايناريتو صاحب الأوسكار (فيلم الرجل الطائر 2015)، والغولدن غلوب (بابل 2006)، وغيرها، يبهر المتفرج بمشهد مقتل حصان غلاس بعد وقوعه من منحدر، إلا أن البرد القاسي يجبر البطل على انتزاع مطيته وشق بطن الحصان وإخراج أحشائه لينام داخلها احتماءً من الثلوج، في مشهد أعتقدُ أنه سيظل خالداً في تاريخ السينما العالمية.
الصور الفوتوغرافية للفيلم تبدو هي الأخرى أبطال العرض، فلون الثلج الناصع من الدم الأحمر يعطي صورة مغايرة ومتعة بصرية هي أقرب إلى اللوحة الفنية، ولعل الاستفادة كانت كبيرة من الطبيعة، بل الطبيعة تحرك الأحداث بطريقة أو بأخرى، فهنا أشجار وغابات وأغصان قوية، وهناك سماء وثلوج وأمطار ورياح وعواصف أقوى، فيما تسير عربة الزمن نحو الأمام دون توقف وكأن الحياة غير موجودة إلا في غابات كندا التي اختارها المخرج كبيئة للعمل بعيداً عن استديوهات هوليوود الجاهزة بتكلفة تجاوزت 160 مليون دولار أمريكي.
هذا كله بالتناسق مع جهد تمثيلي تطلب حركات وعضلات في أغلبية المشاهد، رغم المنافسة القوية بين دي كابريو وهاردي في الكثير من الأحيان.
وما يسجل لمصلحة الفيلم أيضاً أنه لم يحاول افتعال أو اجتثاث للصراع القديم بين الأمريكيين والهنود الحمر من جديد، ولم يجرح مشاعر أي من الطرفين، بل بدا الشريط متصالحاً وعادلاً لهما في أحقية مَن في البقاء على أرضه، فها هو زعيم قبيلة هندية يكتب على صدره قبل أن ينتحر "كلنا همجيون"، ولعلها من مقولات الفيلم الراسخة في الذهن والتي تعبر عن مدى تسلط البشر على بعضهم بعضاً واقتراب سلوكهم لسلوك الحيوانات في الكثير من المرات.
ولعل مشاهد أكل الكبد وأعضاء من أجساد الحيوانات في الغابة لهي من خير الأدلة على أن المفردات السينمائية التي أظهرها الفيلم تجسد ثقافة الغابة وتختلق لنفسا عالماً آخر من عدم الوصول إلى حقيقة الأشياء بأي شكل من الأشكال.
ولكن، يبدو أن بعض المصادفات الدرامية غير المبررة قد أضعفت الفيلم، في غابة شاسعة يلتقي فيها أبطالها ببعضهم البعض بكل سهولة، حتى إن مشهد الدب رغم قوته وضخامته ومدته التي امتدت لخمس دقائق كان بحاجة إلى إقناع أكثر، وخاصة في قتله في نهاية المطاف، وكذلك بدا طول الفيلم معيقاً، رغم أن التشويق ظل مستمراً طوال مدة العرض.
كل هذه العناصر ربما تؤهل The Revenant للترشح لجائزة الأوسكار، بعد أن نال استحسان أغلبية النقاد والمتابعين، ليقول في النهاية ويردد ما أسلفت "كلنا همجيون" مجيباً عن آلاف الأسئلة بخصوص همجية البشر.
aXA6IDMuMTQwLjE5Ni41IA==
جزيرة ام اند امز