ثم إنه صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبين من يشاركونه سكنى المدينة من اليهود معاهدة تعرف بـ «وثيقة المدينة»
كان لكل قبيلة من العرب قبل الإسلام نظامها الخاص، ولكل مدينة من مدنهم حياتها السياسية الخاصة، فقد كان الحكم فى مكة المكرمة ذات المكانة السامية بين مدن الحجاز مسندًا إلى عدة رجال من القبائل العريقة، تُقَسَّم بينهم الأعمال العامة، كالسدانة (حراسة مفاتيح الكعبة)، والسقاية (الإشراف على بئر زمزم وسقاية الحاج)، والسفارة (الإشراف على مسائل الصلح والخلافات)، واللواء (أمور الجند والقتال)، والرفادة (الضرائب)، والخزانة (الأموال العامة)، والندوة (الشورى).
ومع هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ظهرت معالم الدولة بمفهومها المعاصر، حيث أصبحت للمدينة المنورة إدارة منظمة تحوز السلطات التى يخضع لها الناس، وتعمل على حراسة الحقوق والواجبات، ومنع تعدى الناس بعضهم على بعض، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم رأسًا لهذه الإدارة وتلك السلطة. ولا ريب أنها حكومة نبوية لدولة رشيدة؛ فإن أول ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم فى بناء لبنات هذه الدولة وإقامة أركانها أن جمع بين مواطنيها فى سلك مجتمعى يضمن العيش الكريم بينهم، رغم اختلاف أنسابهم وأعراقهم وديانتهم، فقد آخى بين المهاجرين (المنتقلين من أهل مكة) والأنصار (أهل المدينة) فى رباط عائلى لم يشهد التاريخ مثله حتى انصهر كلا الفريقين فى الآخر، فهذا الأنصارى يعرض على أخيه المهاجر ماله وبيته وأرضه حتى شمل الأمر أن يعرض عليه طلاق إحدى زوجاته حتى يتزوجها، وذلك يدل أننا أمام إيثار حقيقى لا يمكن أن يتحقق إلا فى ظل مؤاخاة حقيقية تفوق مؤاخاة الدم والنسب.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبين من يشاركونه سكنى المدينة من اليهود معاهدة تعرف بـ «وثيقة المدينة»، وهى تُعَدُّ أول معاهدة عقدت بين المسلمين وغيرهم، وقد أسست هذه الوثيقة للحقوق والالتزامات المتبادلة بين مواطنى الدولة على اختلاف دياناتهم وعقائدهم.
ولقد عمل النبى صلى الله عليه وسلم على نشر الدعوة الإسلاميَّة فى ربوع الأرض ومن بعده الخلفاء الراشدون، مما زاد فى رقعة هذه الدولة حتى عمت المشرق والمغرب، وقد حافظ المسلمون على توحيدها وتنميتها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، حتى فى زمن ضعف الخلافة وظهور الدويلات والسلاطين راعى كثير منهم إظهار التبعية الظاهرة للخلافة ولو بالدعاء للخليفة على المنابر، ثم انقسمت البلاد الإسلامية إلى دول ودويلات فى أوائل القرن العشرين من الميلاد. وصار لكل واحدة منها دستور ورئيس وقانون يحكمها وسيادة على أراضيها مستقلة عن غيرها؛ ومن هنا فإنه يمكن أن نعد هذا شبيهًا بالدويلات التى كانت قائمة فى عصر ضعف الخلافة، فهى وإن كانت غالبًا تخضع للخلافة ولو فى الصورة، إلا أن بعضها قد انفصل نهائيًّا وصار هناك أكثر من خلافة، كما حدث فى دولة الأندلس حين بدأت تابعة للخلافة ثم غلب عليها عبد الرحمن الداخل فلم يعد للخليفة العباسى إلا الدعاء له، وتسمت الدولة باسم (الإمارة)، ثم أعلنت (الخلافة). ومع ذلك كانت تقوم بأمر الخلافة كاملا من أمور اقتصادية وحربية وقضائية وغير ذلك، ولم يمتنع الجند من الجهاد فى الدولة، وكذا باشر الأئمة فى المساجد أعمالهم، وتصدى القضاة والفقهاء للقضاء والفتيا والتدريس والتصنيف.
وهذا يؤكد أن ما قام به أمراء الدويلات قديمًا، وبما قامت به الخلافات المتعددة الخارجة عن الخلافة الأم، ينطبق على الدولة القُطْرِية المعاصرة؛ حيث تحققت فى كل منها المقاصد الشرعيَّة التى ينشدها الشرع من الدولة؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شئونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر.
قال إمام الحرمين فى «غياث الأمم» [ص 387] نقلا عن بعض العلماء: «لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قُطَّانِ كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوى الأحلام والنهى وذوى العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات». كما يؤيد ذلك أن القاعدة الشرعية أن: «الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ»؛ فإذا كان المطلوب شرعًا أن يكون الأمراء حاكمين الدول تحت إمرة واحد، هو الخليفة، ثم تعسر وجود الخليفة، لم يسقط وجوب حكم أمراء الدول، وفى معناهم رؤساء الدول المعاصرة.
كما أن القول بغير هذا يؤدى إلى أن يصير الناس لا ضابط لهم ولا رئيس يسوسهم، وهذا مآله إلى الفوضى وعدم استقرار أمور البلاد والعباد، وهو ضد مقصود الشارع من كل وجه؛ لغلبة المفاسد المترتبة عليه التى تكر على المقاصد الشرعية الخمسة - التى جاءت كل الملل بحفظها؛ وهى حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال - تكر تلك المفاسد عليها بالنقصان أو بالبطلان.
ومن ذلك نجد أن التشريع الإسلامى لم يفرض شكلا أو مفهومًا خاصًّا للدولة، ولم يهتم كثيرًا بالأسماء وإنما نظر إلى ضرورة مراعاة ضوابط ومحددات من شأنها إقامة العدل وتحقيق الأمن والاستقرار والعيش الكريم للإنسان فى وطنه.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة