معرض جميل ملاعب "نيويورك نيويورك": براءة اللعب ودقة البناء
الفنان اللبناني جميل ملاعب، سيد أدواته، قابض على أسرار المشهد، عارف بخفايا التركيب والبناء.
يُعرف غاليري "جانين ربيز" بإدارة نادين بكداش، أنه المكان الأصعب لقبول الفنانين ومعارضهم. هو الغاليري الذي يمنح تلقائيًّا سمعة مرموقة لكل من يعرض فيه.. فمنذ الستينيات، كانت المؤسسة التي احتضنت وأطلقت نخبة الطليعيين من الفنانين التشكيليين اللبنانيين، وتبنت تجاربهم... وهو راهناً، الغاليري الذي يعقد الصلة مع الأسواق العالمية والعربية، ويتيح للوحة اللبنانية أن تحضر في دبي ولندن وواشنطن.
في هذه الأيام، يستضيف الغاليري معرض الفنان اللبناني جميل ملاعب بعنوان "نيويورك.. نيويورك"... فنان بسوية "المعلّم"، المقتدر والبارع. سيد أدواته، القابض على أسرار المشهد، العارف بخفايا التركيب والبناء، المتمكن من حيل اللون وخفاياه وظلاله. التلقائي العفوي والمهندس الصارم في آن.
معرض ملاعب الجديد، "استعادي" وليس استعاديًّا في آن واحد. إنه لعب مع الزمن وتلاعب حاذق بالذاكرة. والأهم أنه استكشاف للمكان واستحواذ رمزي عليه. هكذا، كانت عودة جميل ملاعب إلى نيويورك ثنائية المعنى: تجديد الرحلة بعد ثلاثين سنة من رحلته الأولى إليها، وتجديد النظر والعمل على لوحته النيويوركية، مع استعادة عرض ما رسمه عن تلك المدينة وفيها قبل ثلاثة عقود.
في العام 1984، سيغادر ملاعب بيروت الحروب والفوضى إلى نيويورك لمدة أربع سنوات، حيث سيتلقى صدمة الفارق الصارخ بين ذاكرته الريفية الوادعة، وتجربته البيروتية القاسية، من جهة، وعالم مدينة المال وناطحات السحاب والحضارة الاستهلاكية والتجارب الثقافية الـ"ما بعد حداثية"، من جهة ثانية.
وعلى عكس المتوقع، لن يعلق الفنان في حيرة هذا التناقض بين بيروت الثمانينيات ونيويورك ما بعد الحداثة. إذ سرعان ما سيؤلف نصه التشكيلي من لا محدودية هذا التناقض وسخائه، ومن امتياز الجمع بين المتباعد، ومن توليف المتنافر... وإذا كان هو صاحب الرسم اليومي بالحبر والطباعة في السبعينيات، مدوناً بشاعات الحرب واقترافاتها، ومبتكر الموتيفات والاسكتشات، والرسوم الرمزية، والتصاوير التعبيرية، والتخطيطات العفوية لعوالم قريته، فهو لن يتخلى عنها تماماً في نيويورك.. فهي ستكون أبجديته التي بها يستنطق المشهد الجديد، مضيفاً إليها تقنيات الكولاج وتمرسه في فن الغرافيك (طباعة حريرية، حفر على الخشب وليتوغرافيا)، عدا إدخاله الكتابة الشعرية باللغة العربية في متن اللوحة، وبالإضافة إلى استثمار ذخيرته من موتيفاته "الشرقية": الزخارف، الرموز الشعبية، الطيور، المنمنمات.. لتتجاور وتتداخل مع "علامات" نيويورك: الشكل الهندسي العمودي للمباني الشاهقة، فن الإعلانات وإشارات النيون، "أيقونات" البوب آرت، وماركات تجارية، وصور نساء، وصخب لوني يكاد يكون صخباً صوتياً أيضاً.
في معرضه الجديد، سيعود ملاعب إلى نيويورك، ليقدم 80 عملاً متنوعاً، بتقنيات الغرافيك المتراوح بين الليتوغرافيا والحفر على الخشب والنحاس، عدا الحضور المبهج للوحات الباستيل والأعمال اللونية بتقنية الغواش.. وهو سيستكمل هنا استكشافه للمدينة الغاوية، مستأنفاً رحلته في المكان وفي التجربة الفنية عينها.. كأن المعرض عبارة عن مخطوط لرحالة يعرف كيف يكون روائيًّا وشاعراً ومصوراً.
جاذبية أعمال جميل ملاعب هي هذا المزيج الصعب بين براءة اللعب وحرية المخيلة وعفوية الشعر وتلقائية الرسم، كأن الفنان الناضج والمختمر، في دقة البناء والتصميم والخط، لا يكبت حسه المرح واللاهي.. بل كأن اللعب هو "تقنية"، تماماً كما نعرف عن المعلّمين الكبار في الفن التشكيلي.
برهافة الريفي العتيق، وبثقل الإرث "الشرقي" المشبع بالأساطير والرموز، وبنضج تجربة الرحالة وسعة الأفق، وبالتثاقف الحي والمنفتح مع المكان الأميركي وعوالمه وفنونه، وبروح الشاعر وحرية اللاعب وتلقائيته، تتألف لوحة جميل ملاعب الغنية والفائضة بالعاطفة.
مرة جديدة، وعبر مختلف معارضه، المتغيرة تقنية ومواد وموضوعات بلا خيانة لمساره، يؤكد هذا الفنان مكانته كأحد أبرز المجددين في اللوحة اللبنانية المعاصرة.
- يستمر المعرض حتى الخامس من شباط – فبراير المقبل.
aXA6IDE4LjExNy4xNjguNzEg جزيرة ام اند امز